- يوثق تحقيق "العربي الجديد" كيف يستهدف جيش الاحتلال الجوعى في قطاع غزة المحاصر قبل معركة 7 أكتوبر وبعدها، إذ قتل باحثون عن مساعدات غذائية في كمائن إسرائيلية متنوعة.
- يرقد الجريح الغزي أحمد عاشور في مجمع الشفاء الطبي، والذي يفتقر إلى إمكانيات العلاج وخاصة من نوعية الحالات الحرجة التي توافدت فجأة، ظهر الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2024، وبلغ عددها 149 إصابة برصاص وقذائف مدفعية أطلقتها قوات الاحتلال عليهم أثناء انتظارهم من أجل الحصول على مساعدات غذائية عند دوار الكويت الواقع على طريق صلاح الدين جنوب مدينة غزة، بعدما جاءتهم رسالة نصية خادعة تحمل اسم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، كما يقول محمود عاشور شقيق أحمد، و3 غزيين آخرين وصلتهم الرسالة.
و"ما إن وصلت الرسائل إلى هواتف عدد من سكان مدينة غزة وشمال القطاع حتى انتشر خبر حول وصول شاحنات المساعدات، وبدأ المئات بالتوجه لتلك المنطقة، غير أن مدفعية الاحتلال المتمركزة على بعد كيلومتر في الاتجاه الجنوبي من الدوار، استهدفت الأهالي المنتظرين وبدأت في إطلاق النار والقذائف بصورة مباشرة ومفاجئة، ما أدى إلى استشهاد 20 شخصا وإصابة 150"، بحسب توضيح الناطق باسم وزارة الصحة في غزة الدكتور أشرف القدرة، والذي يصف الواقعة بأنها "مجزرة إسرائيلية استهدفت أصحاب الأفواه الجائعة".
و"ليست هذه الواقعة الأولى من نوعها، إذ صار الغزيون خائفين من كمائن الاحتلال لاصطياد أكبر عدد ممكن من الجوعى الباحثين عن المساعدات"، كما يقول إسماعيل الثوابتة مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، بينما يؤكد مسؤول ميداني عن توزيع المساعدات في أونروا لـ"العربي الجديد" (طلب عدم نشر اسمه لأنه غير مخول بالتصريح لوسائل الإعلام)، أن الوكالة لا تعلم شيئا عن هذه الرسائل، ولم يسبق أن أرسلت مثلها خلال فترة الحرب، إذ تقوم عادة بالإعلان عن عزمها تسليم مساعدات عبر موقعها وصفحاتها الرسمية على وسائل التواصل الاجتماعي.
اصطياد تجمعات الجوعى
وثق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان (منظمة مستقلة مقرها في جنيف)، ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) 4 حوادث إطلاق نار حتى 30 يناير الماضي، هاجم خلالها جيش الاحتلال المدنيين الفلسطينيين بشكل مباشر أثناء تجمعهم بينما ينتظرون شاحنات المساعدات الإنسانية، ما أدى لاستشهاد 72 فلسطينيا وجرح المئات بعضهم جروحهم خطرة وفقا لمديرة الدائرة القانونية في المرصد ليما بسطامي.
ووقعت الحادثة الأولى التي وثقها المرصد في 11 يناير الماضي كما تقول بسطامي لـ"العربي الجديد"، مضيفة أن الاحتلال أطلق قذائف الدبابات بالإضافة إلى رصاص من طائرات مسيرة من نوع كواد كوبتر (مسيّرة رباعية المراوح مزودة بكاميرا ونظام GBS) باتجاه مئات الفلسطينيين الموجودين في شارع الرشيد شمال غرب مدينة غزة، ممن كانوا ينتظرون شاحنات طحين تابعة للأمم المتحدة، ما أسفر عن استشهاد 50 فلسطينيا وإصابة العشرات، وبالطريقة ذاتها وقعت الحادثة الثانية في 22 يناير حين قصفت دبابات الاحتلال مئات الجوعى الذين تجمعوا على دوار الكويت، بعد إشاعة معلومات مضللة تفيد بقرب وصول شاحنات المساعدات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة، ما أدى إلى استشهاد اثنين وإصابة عشرة آخرين، والمجزرة الثالثة هي المرتكبة عند ذات الدوار في 25 يناير الماضي.
وبعد 5 أيام وتحديدا في الساعة الرابعة من 30 يناير، أطلق جيش الاحتلال النار على مدنيين وأصاب عددا منهم عند دوار الكويت أيضا، بينما كانوا يتجمعون توقعا لتلقي مساعدات إنسانية، "ويعد الحدث الرابع والذي يتم فيه إطلاق النار على فلسطينيين متجمعين للحصول على الإمدادات الغذائية"، بحسب ما جاء في التقرير الموجز حول الأعمال القتالية في قطاع غزة وإسرائيل رقم 107، الصادر عن مكتب أوتشا في 31 يناير الماضي.
وبالإضافة إلى ما سبق وثق معد التحقيق عبر إفادات شهود عيان ارتقاء ستة شهداء وإصابة 30 آخرين في استهدافين آخرين في السادس والعشرين وفي التاسع والعشرين من يناير الماضي، وارتكبا عند دوار الكويت أيضا، وهي أقرب منطقة لمدينة غزة تستطيع الشاحنات الوصول إليها، واتسما بتكرار ذات أسلوب قتل المدنيين الموجودين بعد انتشار شائعات حول وصول المساعدات.
"لكن وصول شاحنات المساعدات التي عُبد طريقها بدماء الجوعى كان نادرًا"، كما يقول الثوابتة، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أن معظم عمليات الاستهداف الموثقة لمواطنين تجمعوا بعد سماعهم شائعات بقرب وصول الشاحنات أو على أمل في وصولها، إذ يدفع الجوع الناس للخروج بحثا عن لقمة يسدون بها رمق أطفالهم، وهذا ما يؤكده خالد يونس النازح من مدينة غزة إلى رفح، قائلا إن شقيقه المقيم في مدينة غزة، والذي نجا من مجزرة 25 يناير المنصرم، أبلغه أنهم قبل الاستهداف توجهوا إلى دوار الكويت، رغم معرفتهم بخطورة المنطقة بعد تداول شائعات عن قرب وصول شاحنات المساعدات.
ويدخل ما تمارسه إسرائيل من أعمال قتل متعمد يستهدف المدنيين الذين لا يشاركون في الأعمال الحربية عامة والباحثين عن الطعام بشكل خاص، ضمن جرائم الحرب وفق مبادئ القانون الدولي الإنساني، والمادة الثامنة، البند الثاني من الفقرة أ لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بحسب توضيح بسطامي.
وتحظر المادة ذاتها في النقطة 25 من الفقرة ب من البند الثاني "تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمد عرقلة الإمدادات الغوثية على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف"، ويصنف التجويع ضمن الانتهاكات الخطيرة للقوانين والأعراف الدولية.
معلبات مفخخة في غزة
بلغ الجوع في قطاع غزة حد طحن أعلاف الحيوانات من أجل تناولها، كما يروي خمسة مواطنين يقطنون شمال القطاع، منهم أحمد نصر، وإبراهيم عودة، وهو ما أشارت له وكالة أونروا في منشور لها على موقع إكس (تويتر سابقا) في 28 يناير 2024: "ببساطة، لا يوجد ما يكفي من الغذاء"، كما نشرت صورا يظهر فيها غزيون يقفون في البرد وزخات المطر أملا في الحصول على إمدادات الإغاثة بمدينة دير البلح وسط غزة.
و"سهلت معاناة الجوع استدراج الغزيين إلى مناطق محددة بذريعة توزيع المساعدات ومن ثم قتلهم"، كما يقول الثوابتة.
لكن شهادات ثمانية نازحين من شمال القطاع إلى جنوبه، تكشف عن طرق أكثر "وحشية" مثل؛ ترك معلبات مواد غذائية مفخخة في منازل سيطر عليها جيش الاحتلال، وبمجرد أن يفتحها أحد العائدين بحثا عما يسدون به رمقهم تنفجر لتقتل وتصيب من يوجدون في محيطها، كما تقول آمنة عيسى لـ"العربي الجديد" والتي خسر ابنها محمود (14 عاما) ثلاثة أصابع من يده وأصيب بشدة في وجهه ورقبته بعدما فتح علبة تركها جيش الاحتلال، ظنًا منه أنها تحتوى على لحم معلب، وتضيف: "في البداية كان جنود الاحتلال يتركون فعلا طعاما حقيقيا كالمعلبات والخبز ويأخذه المواطنون الجوعى بعد انسحابهم، لكنهم استغلوا ذلك وأصبحوا يتعمدون ترك معلبات مفخخة، قتلت إحداها ابن جارتي كما أصابت الأخرى محمود ابني".
ويشرح متخصص في هندسة المتفجرات يعمل في قسم إزالة أخطار مخلفات الاحتلال التابع للشرطة في غزة (رفض كشف هويته حفاظًا على أمانه الشخصي إذ تستهدفهم قوات الاحتلال) لـ"العربي الجديد" آلية عمل هذه القنابل، ويقول إنها تحاكي شكل علب الطعام وتحتوي على جزأين متفجرين مترابطين، الأول في الأعلى وهو صاعق، والثاني في أسفل العلبة ويحتوي المادة المتفجرة TNT، ويضيف أنه وبمجرد نزع الغطاء، ينشط الصاعق فيُصدر شرارة تحفيزية تفجر الـ"TNT"، وغالبا ما توضع شظايا معدنية حادة الحواف في العلبة لضمان إيذاء المحيطين بها وإصابتهم وبتر أطرافهم على الأقل، وتؤثر على الأشخاص في دائرة يبلغ قطرها 20 مترا حول نقطة الانفجار، "وهي ليست طريقة جديدة على الاحتلال، إذ سبق وأعد شراكا مماثلة على شكل دمى وألعاب للأطفال".
قتل العائدين إلى بيوتهم بحثا عن الطعام
تؤكد إفادة عبد الله رزق، وخمسة مواطنين آخرين، أن الاحتلال يستهدف النازحين الذين يعيدهم الجوع إلى بيوتهم من أجل جمع ما تبقى فيها من طعام، خاصة أنهم يظنون أن دبابات الاحتلال انسحبت أو تراجعت، إذ إن النازحين غالباً ما يضطرون إلى ترك بيوتهم على عجل تحت وقع القصف وإطلاق النار، ويأخذون معهم القليل من الطعام والأغراض، ومع طول مدة النزوح وفقدان الطعام، يتوق الناس إلى جلب ما يمكن الحصول عليه من معلبات أو غيرها، ويضيف رزق: "يبدو أن الاحتلال أدرك حاجة الناس للعودة إلى منازلهم، فيتظاهر بسحب الدبابات من شارع أو منطقة معينة، ويعمل على نشر قناصة بشكل متخف على بنايات مرتفعة، لتبدو المنطقة خالية تماماً وبمجرد تجمع المواطنين الباحثين عن الطعام يباغتهم الاحتلال بإطلاق رصاص قناصته ورصاص مسيراته".
هذه الكمائن وفقًا للإفادات السابقة كررتها قوات الاحتلال في مناطق حي الشيخ رضوان، وتل الهوى، وحي الزيتون، ومناطق شمال القطاع، خمس مرات خلال الشهر الماضي، ما أدى إلى استشهاد وإصابة العشرات، وهو ما يتفق مع تأكيد المكتب الإعلامي الحكومي على لسان الثوابتة الذي شدد في حديثه لـ"العربي الجديد" على رصد تعمد الاحتلال قتل العائدين إلى منازلهم في أحياء بشمال غزة.
وفي محافظة خانيونس جنوب غزة، نصب الاحتلال كمائن وفق ذات الأسلوب في مناطق بطن السمين غربا، وقرية قيزان النجار الواقعة على طول طريق صلاح الدين، ومنطقة البلد، كما أكد 8 غزيين قابلهم معد التحقيق ومن بينهم خميس فوجو الذي يرجح أن نجله محمد (19 عامًا) وقع ضحية أحد هذه الكمائن، حيث توجه لحي بطن السمين من أجل جلب غذاء ومستلزمات من منزل أحد أقربائه الذين نزحوا إلى رفح منذ يوم 19 يناير الماضي، لكنه فقد من وقتها ولم يسمعوا عنه شيئا.
وفي الثالث من فبراير/شباط الجاري، وثق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان قتل جنود الاحتلال شابا فلسطينيا أثناء بحثه عن الطعام في محيط ملعب فلسطين بمدينة غزة، مؤكدا أن قناصا أطلق النار بشكل مباشر على ظهر الشاب ما أسفر عن استشهاده.
وفي حال انسحب جنود الاحتلال من منطقة ما في القطاع نهائيا يعمد الجنود إلى حرق منازل المواطنين بما فيها من أثاث وطعام، خاصة شمال القطاع، بهدف حرمان سكانها من الاستفادة من مخزونهم وبالتالي تعميق المجاعة، ويصعب حصر أعداد الشهداء والجرحى في مثل هذه الحوادث، بعدما خرجت مشافي وزارة الصحة الفلسطينية في شمال القطاع عن الخدمة، لكن وزارة الصحة تؤكد لـ "العربي الجديد": أن ضحايا حوادث المعلبات المفخخة 20 شهيدًا و50 مصابا على الأقل، بينما قدرت الوزارة ضحايا استهدافات العائدين إلى بيوتهم بمختلف أشكالها في مدينة غزة وشمال القطاع بـ 95 شهيدًا ونحو 400 مصاب في شهر يناير فقط.
استهداف قوافل المساعدات وتراجع عدد شاحنات الإغاثة
لم يكتف الاحتلال بتعمد قتل الجوعى، بل يعمد إلى منع وصول المساعدات، وفق ما يوثقه المرصد الأورومتوسطي عبر حالات استهداف متعمد لقوافل المساعدات الإنسانية، إذ أطلق جيش الاحتلال النار في 8 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على قافلة مساعدات تحمل إمدادات طبية تابعة للصليب الأحمر، ما تسبب في جرح سائق وتضرر شاحنتين، وفي 29 ديسمبر/كانون الأول الماضي أطلق الجيش النار على قافلة مساعدات تابعة لأونروا دون وقوع إصابات، بينما استشهد أحد الموظفين القائمين على توزيع المساعدات، وأصيب آخرون في 10 يناير الماضي جراء استهداف الجيش الإسرائيلي لهم أثناء توزيعهم لمساعدات جنوب مدينة غزة. وفي الخامس من فبراير/شباط 2024، استهدف الاحتلال قافلة المساعدات التي كانت متجهة من جنوبي قطاع غزة لشماله رغم مرافقتها من مركبات تابعة للأمم المتحدة وإبلاغ قوات الاحتلال بطريق تحركها وإحداثياتها مسبقًا، بحسب ما أعلنه المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.
ويعلق الثوابتة على استهداف العاملين على توزيع المساعدات قائلا: "جيش الاحتلال يتعمد مفاقمة الفوضى عبر استهداف المسؤولين عن تنظيم الإمدادات الإنسانية في قطاع غزة، وبالتالي منع وصولها إلى مستحقيها، إذ يشكل غياب هؤلاء الأشخاص عائقا أمام آلية لتوزيع المساعدات، وبالتالي يندفع الناس تجاه الشاحنات، ويصبح الحصول على المعونة حكرا على من يستطيع تسلق الشاحنة".
وبالإضافة للاستهداف المباشر، شهدت الفترة ما بين 23 يناير إلى نهاية الشهر ذاته، تراجعا كبيرا في دخول المساعدات الإنسانية والمواد الغذائية لقطاع غزة، وفق ما أكده مصدر في معبر رفح لـ"العربي الجديد"، كاشفا أن "عدد الشاحنات التي كانت تدخل من المعبر وصل إلى 180 شاحنة يومياً، لكنها انخفضت إلى عدد يتراوح بين 80 و100 شاحنة فقط خلال الفترة المذكورة. علما أن محافظتي غزة والشمال بحاجة إلى 1.300 شاحنة غذاء يومياً لتخفيف حدة المجاعة، وفق الثوابتة، والذي يضيف: "تتعرض محافظتا غزة والشمال إلى حصار شديد ومطبق بالتزامن مع استمرار حرب الإبادة الجماعية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي، والذي يمنع وصول أي مساعدات إلى المحافظتين منذ بدء العدوان، وتم تسجيل عشرات حالات الإعدام والقتل الميداني"، وهو ما يوثقه تحقيق "العربي الجديد" المنشور في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 بعنوان: الإعدامات الميدانية في غزة... "الممر الآمن" مصيدة لاعتقال الفلسطينيين وتصفيتهم.
ويحظر القانون الدولي الإنساني "تعمد شن هجمات ضد موظفين مستخدمين أو منشآت أو مواد أو وحدات أو مركبات مستخدمة في مهمة من مهام المساعدة الإنسانية أو حفظ السلام، عملاً بميثاق الأمم المتحدة ما داموا يستخدمون الحماية التي توفر للمدنيين أو للمواقع المدنية بموجب قانون المنازعات المسلحة"، ويعتبرها كذلك جريمة حرب، وفق ما نصت عليه المادة 8، في النقطة 3 من الفقرة ب في البند الثاني من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
لكن "أمام بكاء الأطفال وحاجة الأسر النازحة في ظروف غير إنسانية، إلى الطعام لم يعد أمام الغزيين غير المغامرة بأرواحهم، سواء كانوا من الجوعى أو حتى ممن يوزعون المساعدات"، كما يقول النازح خالد يونس.