الأصفاد البلاستيكية... آثار تعذيب الاحتلال الإسرائيلي لا يمحوها الزمن
تخترق أصفاد بلاستيكية أيادي الأسرى الفلسطينيين وتترك علامات تنتج من جروح عميقة لا يمحوها الزمن وتظل تبعاتها الجسدية والنفسية تلازمهم لسنوات طويلة، إذ يتعمد الجنود شد وثاق المعتقلين ما يدمر أعصاب اليد ويضعف قدراتها.
- لايزال الأسير المحرر تامر الزعانين يعاني مضاعفات صحية، جراء تكبيل جنود الاحتلال ليديه بأصفاد بلاستيكية مدة ثمان وأربعين ساعة متواصلة بداية اعتقاله في عام 2006 وكذلك عدة مرات خلال فترة أسره التي استمرت حتى نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2018.
ظلت يدا الزعانين، الناطق الإعلامي باسم مؤسسة مهجة القدس للأسرى (أهلية)، والقاطن في شمال قطاع غزة، متورمتين لأكثر من شهرين عقب الاعتقال، إذ كان لا يشعر بهما معظم الوقت جراء انحباس الدم في كفي يديه، بسبب شد جنود الاحتلال الأصفاد، موضحاً أنه اشتكى لمندوب اللجنة الدولية للصليب الأحمر الذي زاره في السجن لكن لم تطرأ على حالته أي تغيير، وهو ما يفسره اختصاصي جراحة المخ والأعصاب الطبيب محمد أبو دقة، والذي يعمل في عدة مراكز صحية ومستشفيات حكومية جنوب القطاع، بأن شد الأصفاد يمنع وصول الدم إلى مراكز اليد الأساسية ويؤدي إلى تضرر أعصابها، قائلا: "آثار الأمر قد تستمر أشهرا وربما عدة سنوات".
التعذيب عبر الأصفاد
يستخدم جنود الاحتلال نوعين من الأصفاد لتكبيل الأسرى، الأولى بلاستيكية، وهي عبارة عن شريط رفيع، به نتوءات متقاربة وتسمى أيضا الأصفاد المزدوجة، ويُجبر الأسير على وضع يديه خلف ظهره، ثم يتم شد الأصفاد إلى أقصى درجة، دون وضعها فوق الملابس، لتبدأ في اختراق الجلد، كما يقول الرئيس السابق لهيئة شؤون الأسرى الحكومية عيسى قراقع، والباحث في مجال الأسرى ورئيس وحدة الدراسات والتوثيق في الهيئة عبد الناصر فروانة، ويوضحان أن جميع المعتقلين منذ الانتفاضة الأولى في ديسمبر/كانون الأول من عام 1987 وحتى اليوم جرى تكبيلهم بهذا النوع والذي يستخدم لمرة واحدة ويجري التخلص منه عبر قطعه، والنوع الثاني حلقات معدنية "كلبشات"، ويكبل بها الأسرى خلال نقلهم إلى المحكمة.
ويعاني بعض الأسرى بشكل كبير جراء تضرر أياديهم بصورة تعيق ممارستهم لأبسط شؤون حياتهم مثل الإمساك بكوب أو تناول الطعام بالملعقة، ومن بينهم عوض الصعيدي من قطاع غزة والذي تعرض لتنكيل وضرب وشبح وتقييد بالأصفاد البلاستيكية بصورة متكررة خلال فترة اعتقاله التي وصلت إلى 19 عاماً وانتهت في فبراير/شباط الماضي.
يستخدم جنود الاحتلال نوعين من الأصفاد لتكبيل الأسرى
ويدرك الاحتلال صعوبة تقييد الأسرى عبر الأصفاد البلاستيكية صحياً ونفسياً، وبالتالي حولها لأداة تعذيب وتنكيل، عبر استخدام أنواع أكثر حدة تتغلغل في اليد بصورة أسرع وأعمق، خاصة مع شدها بأقصى قوة، ما يزيد المعاناة كما يقول قراقع والزعانين.
ويؤدي ترك الجروح خاصة العميقة بلا تطهير أو علاج، إلى زيادة الجراثيم والميكروبات في اليد، وظهور التهابات تزيد الضرر كما يوضح اختصاصي الجراحة الطبيب وائل شقفة المدير السابق للمستشفى الجزائري العسكري، بمحافظة خان يونس جنوب القطاع.
ويتم ربط الأسرى بذات الأصفاد ولكن من أرجلهم خلال عملية الشبح، سواء جلوساً أو وقوفاً، وتُرفع القدمان المكبلتان بالأصفاد البلاستيكية بصورة تنتج منها آلام مضاعفة وجروح أعمق، خاصة خلال فترات التحقيق كما يقول فروانة والزعانين اللذان لفتا إلى أن المحققين يتعمدون الدعس بأقدامهم على مكان الأصفاد لزيادة الألم.
شكاوى بلا نتيجة
تلقت هيئة شؤون الأسرى الحكومية ومؤسسة مهجة القدس 200 شكوى لحالات عانت من آثار وتبعات التقييد بالأصفاد، كما يقول قراقع والزعانين، وفي محاولة لمواجهة الأمر أرسلت الهيئة ومؤسسات أهلية تعنى بشأن الأسرى، 120 رسالة في الفترة ما بين 2014 وحتى 2020 موجهة إلى مؤسسات عالمية، منها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ولكن بلا نتيجة.
ويؤكد الزعانين وفروانة أن جهاز الشاباك أبقى بعض الأسرى أسبوعاً كاملاً مكبلين بالأصفاد البلاستيكية، ولدى عرضهم على المحقق كانوا في قمة الإرهاق وبوضع نفسي سيئ، وهو ما يفسره الطبيب والمعالج النفسي يوسف عوض الله، مدير عيادة رفح النفسية الحكومية، الذي اعتقل عام 1992 وتم تقييده بتلك الأصفاد لمدة 12 ساعة متواصلة، قائلا هذه "وسيلة تعذيب جسدية ونفسية"، الهدف منها إشعار الأسرى بالضعف والعجز، وكسر الروح المعنوية بشكل تدريجي حتى يصل الأسير لمرحلة الضعف والانكسار قبل خضوعه للتحقيق، وتابع: "بعض الأسرى حتى بعد تحررهم لا يزالون يعانون من العجز، وبعضهم يتحسسون أيديهم بشكل لا إرادي كلما يتذكرون تلك التجربة الأليمة أو تُذكر أمامهم".
أداة قمع جماعية
يعتقل الاحتلال 4800 أسير في 23 سجناً ومعتقلاً في كافة أرجاء فلسطين المحتلة، من بينهم 160 طفلاً، و33 سيدة، و820 أسيرا يخضعون للاعتقال الإداري، و600 مريض، إضافة إلى 554 أسيرا يقضون أحكاما بالسجن مدى الحياة، و314 أسيراً مضى على اعتقالهم أكثر من 20 عاماً، كما يوضح فروانة.
يعتقل الاحتلال 4800 أسير في 23 سجنا من بينهم 160 طفلاً
ويستخدم الاحتلال الأصفاد البلاستيكية خلال "عمليات قمع الأسرى"، إذ تُدهم الغرف والأقسام بصورة مفاجئة، ويصار إلى تكبيلهم بتلك الأصفاد، ورميهم على الأرض فوق بعضهم البعض، ووجوههم إلى الأسفل لفترات طويلة ضمن أشكال العقاب الجماعي والتعذيب النفسي والجسدي، كما يقول فروانة والزعانين، وهو ما دفع محامي مركز الميزان لحقوق الإنسان إلى التقدم بالتماس لدى المحكمة المركزية الإسرائيلية في بئر السبع، في سبتمبر/أيلول الماضي، للمطالبة بوقف استخدام الأصفاد البلاستيكية بحق المعتقلين، لما تتسبب به من جروح وآلام شديدة في اليدين، وتأسيساً على عدم قانونية الأمر وانتهاك هذا السلوك لقواعد الأمم المتحدة النموذجية لمعاملة السجناء، ولاسيما المادة (33) منها، التي تؤكد على وجوب عدم إلحاق الضرر الجسدي والنفسي بالأسرى.
وجاء الالتماس بعد حملة قمع لقوات الاحتلال داخل سجن نفحة، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، إذ كبلت عددا كبيرا من المعتقلين بالأصفاد البلاستيكية لساعات طويلة، مما تسبب في نزيف دموي في أياديهم وآلام شديدة، كما يقول سمير زقوت نائب مدير المركز، والذي أضاف بأنه تم توثيق 50 حالة أصيبت بمضاعفات حادة جراء تلك الأصفاد خلال عمليات القمع، مشيرا إلى أن المحكمة رفضت التماسهم.
معاناة أسرى "سقاف"
يصنف الاحتلال بعض الأسرى باعتبارهم من فئة "سقاف"، وتعني بالعبرية "خطر أمني"، بعضهم لديهم قوة جسمانية كبيرة، أو شاركوا في هجمات مباشرة ضد الاحتلال، أو حاولوا الهروب، وهؤلاء يتعرضون لتنكيل طوال فترة الاعتقال، ويتم تكبيلهم بالأصفاد البلاستيكية خلال عرضهم على الطبيب، أو تنقلاتهم المستمرة بين الأقسام وبين السجون، أو حتى دون سبب، كما يوضح الأسير المحرر سليم الحشاش والذي قضى عشر سنوات في السجون وتحرر في سبتمبر/ أيلول 2014، وعانى نتيجة الأصفاد من جروح عميقة في يديه استمرت لعام كامل خلال الأسر، ولايزال تأثيرها حتى اليوم، على شكل خدران (تنميل).
وتكبل أيادي أسرى "سقاف" بشكل متكرر من الخلف إضافة لتكبيلهم من الوسط عبر سلسلة معدنية وشدها على البطن وتكبيل أرجلهم خلال نقلهم، وقد تستمر عملية التكبيل ساعات طويلة، وجلهم يعانون ضعفا في اليدين، وآلاما مستمرة فيهما، ومن بينهم الأسير المحرر رائد الصوفي، من سكان مدينة رفح، والذي تحرر في شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2020 بعد قضائه 15 عاما في سجون ومعتقلات الاحتلال، كلها ضمن تصنيف "سقاف"، قائلا: "تم تكبيلي بتلك الأصفاد عشرات المرات ولفترات أقلها خمس ساعات وأكثرها يومان، ونتجت من ذلك آلام مبرحة، وجروح، وضعف مستمر في أعصاب اليدين".
ويحذر أمجد النجار المتحدث باسم نادي الأسير الفلسطيني، من أن إدارة السجون الإسرائيلية تسعى لفرض طريقة التعامل مع أسرى "سقاف" لتشمل جميع الأسرى المحكومين بالمؤبد "مدى الحياة"، بحيث لا يمكث أي أسير محكوم بالمؤبد أكثر من ستة أشهر في نفس السجن، وبحد أقصى ثلاثة أشهر في القسم، ثم ينقل لقسم مختلف، مع تكبيلهم بشكل مستمر بالأصفاد البلاستيكية.
آثار صحية ممتدة
في عام 1993، اعتقل ياسين حسونة، بينما كان لا يزال طفلا لمدة عامين ونصف العام، وجرى تقييده بالأصفاد البلاستيكية التي تركت آثارا لمدة ثلاث سنوات على يديه، كما لايزال يشعر بضعف في يديه حتى اليوم نتيجة تضرر أعصابها.
ويحاول المعتقل تجنب تحريك يديه أو تعديل وضعيتهما حتى لا تزداد آلام الأصفاد، ويزيد الضرر على الأوردة والأعصاب، كما يقول الزعانين.
ويوجد في اليد ثلاثة أعصاب رئيسية اضافة لمجموعة من الأوردة الدموية تغذيها، ويؤدي الضغط الشديد عليها لمدة طويلة تتجاوز بضع ساعات إلى تلف الأعصاب والشرايين والأوردة بشكل يصعب علاجه في بعض الحالات، كما يقول الطبيب أبو دقة، مضيفا:"الضغط الشديد والثابت في نفس المكان يؤثر بشكل مباشر على العصبين الخارجي والأوسط لليد، ويمنع وصول الدم بصورة كافية ما يتسبب بتلف في الأنسجة والخلايا، إضافة إلى تقرحات جلدية عميقة نتيجة الجروح".
وفي حال تضررت اليد بمقدار فوق المتوسط، وتأخر العلاج، وهذا غالبا ما يحدث لبقاء الأسرى في السجون مدة طويلة، فإنهم يعانون من أعراض أبرزها، خدران مستمر، وضعف في اليد، وعدم قدرة على القيام بالأعمال اليومية وهو ما يزيد وينقص وفق عوامل عدة أبرزها حالة الجو، ففي فصل الشتاء البارد تزداد الأعراض وعند ممارسة مجهود والضغط على اليد تتفاقم الحالة وفق إفادة الطبيب أبو دقة.