تتفاقم حالات الانتحار في الجزء الخاضع لسيطرة الهند من إقليم كشمير، في ظل معاناة اقتصادية هائلة بدأت مع الإغلاق شبه الكامل الذي فرضته السلطات الهندية في أغسطس 2019 وتزايدت عقب إجراءات الاحتراز من فيروس كورونا
-قبل إقدام الكشميري رئيس أحمد شاه على الانتحار، أمضى بضع ساعات مع شقيقتيه غير المتزوجتين وشقيقه الأصغر، فور عودته مع والده من موقع بناء في بلدة أنانتناغ جنوبيّ كشمير الهندية، مساء 21 من مايو/ أيار 2020، ثم ذهب إلى غرفته، وبعد ساعة من انصرافه لحقت به إحدى شقيقتيه لتجده معلقاً بحبل مربوط مخصص لمروحة السقف.
دخل أحمد شاه (27 عاماً) في حالة اكتئاب حاد، لعدم قدرته على الحصول على وظيفة لائقة، رغم حصوله على شهادة جامعية في عام 2014، وفق شقيقه العشريني وسيم، الذي روى لـ"العربي الجديد" الصعوبات التي واجهت أخاه، قائلاً:" الفرصة الوظيفية الوحيدة التي أُتيحت له كانت في أحد أقسام الشرطة خسرها لعدم تمكنه من تقديم الوثائق الضرورية في الوقت المحدد، فعمل مكرهاً في البناء. مستدركاً:" كان يحلم بوظيفة حكومية ومنزل صغير وحياة زوجية سعيدة ومستقبل آمن، لكنه لم يجد ذلك".
الصدمات النفسية بين سكان كشمير تصل إلى مستوى الوباء
وتتفاقم المشاكل النفسية بين سكان كشمير (يبلغ عددهم 12.5 مليون نسمة وفق تعداد عام 2011) الخاضعة للإدارة الهندية، فضلاً عن غياب الاختصاصيين النفسيين لعلاجهم نتيجة الصراع الدائر لعقود، ما أدى إلى تزايد حالات الانتحار هناك، وفق ما وثقه مُعدّ التحقيق عبر تقرير "مسح الصحة العقلية في كشمير الصادر عن منظمة أطباء بلا حدود في عام 2015"، الذي أكد أن الاضطرابات النفسية الشائعة بين سكان كشمير المصابين بصدمات نفسية تصل إلى مستويات الوباء، وهو ما لاحظه الدكتور مشتاق أحمد فردوس، أستاذ علم النفس في كلية الطب بجامعة كشمير الحكومية.
تفاقم مطّرد لحالات الانتحار في كشمير
سجلت ولاية جامو وكشمير 330 حالة انتحار في عام 2018، بزيادة 15% عن عام 2017، ثم انخفض عدد حالات الانتحار في عام 2019 إلى 284 حالة، وفق بيانات المكتب الوطني لسجل الجرائم NCRB التابع لوزارة الداخلية الهندية، ليعود العدد إلى الارتفاع مجدداً في 2020، بمعدل حالة انتحار واحدة يومياً، وفق جاويد أحمد تاك، الذي أنشأ خط مساعدة نفسية في منظمة الرعاية الإنسانية WHOH (تُعنى بتسجيل حالات الإعاقة والأمراض النفسية لدى الأطفال) خلال عمليات المسح التي تقوم بها المنظمة في المناطق المتأثرة بالعنف، موضحاً لـ"العربي الجديد" أنه في يونيو/ حزيران الماضي وحده، سُجِّلَت 20 حالة انتحار في وادي كشمير، ومعظم المنتحرين من الشباب الذين عانوا من الأوضاع الاقتصادية السيئة بسبب الإغلاق شبه الكامل الذي فرضته السلطات الهندية في 5 أغسطس/ آب 2019، بعدما قررت حكومة حزب بهاراتياجانتا إلغاء الوضع الخاص في منطقة "جامو وكشمير" وتقسيمها إلى إقليمين، وفرضت عليها قيوداً على التجوال والاتصالات وفصلت خدمة الإنترنت، وهو ما أدى بعد مائة يوم إلى فقدان 100 ألف مواطن لوظائفهم، وخسائر اقتصادية بنحو 1.39 مليار دولار (100 مليار روبية هندية)، وفق تقدير غرفة التجارة والصناعة في جامو وكشمير.
ما علاقة الانتهاكات المستمرة بالمشاكل النفسية؟
"ساءت الأوضاع في كشمير، مع تزايد القوات المسلحة الهندية عقب التمرد العسكري والعنف في عام 1989"، وفق موقع المفوضية الوطنية لحقوق الإنسان (حكومية)، الذي أكد رصد 20 ألف محاولة انتحار في وادي كشمير، توفي منهم 3 آلاف شخص (تراوح أعمارهم بين 16 و25 عاماً)، خلال الفترة من عام 1999، حتى 2004، مشيراً إلى أن حالات الانتحار حصدت ثاني أكبر عدد من الأرواح بعد القتال.
وتشهد كشمير موجات من الاحتجاجات المستمرة من جانب الأهالي الرافضين للسيطرة الهندية على أراضيهم، الأمر الذي أدى إلى انتهاكات متواصلة ضد السكان هناك، كما حدث في عام 2016، إذ استخدمت قوات الأمن الهندية القوة المفرطة ضد المتظاهرين، وقتل على إثرها 145 مدنياً خلال الفترة من منتصف يوليو/ تموز 2016 ونهاية مارس/ آذار 2018، وفق ما أكده تقرير حالة حقوق الإنسان في كشمير: التطورات في ولاية جامو وكشمير الهندية من يونيو 2016 إلى إبريل/نيسان 2018 الصادر عن مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة من أجل حقوق الإنسان. ومن أخطر الأسلحة المستخدمة ضد المحتجين حينها بنادق الخردق (بنادق صيد)، التي قتل بها 17 شخصاً بين يوليو 2016 وأغسطس 2017. فيما أُصيب 6221 شخصاً بالرصاص حتى مارس من العام نفسه.
استمرار العنف وتردي الأوضاع الاقتصادية يدمران حياة الأهالي
وتؤكد منظمات المجتمع المدني أن العديد منهم أصيبوا بالعمى جزئياً أو كلياً، وفق التقرير ذاته. وأسهم قانون الصلاحيات الخاصة للقوات المسلحة (AFSPA) الصادر في عام 1958 (يمنح القانون سلطات خاصة للقوات المسلحة الهندية في المناطق المضطربة) الذي طُبِّقه على جامو وكشمير في 1990، في تعقيد الوضع، إذ منح قوات الأمن الهندية حصانة ضد الملاحقة القضائية عن أي انتهاك، وفق ما يؤكده التقرير ذاته، الذي أشار إلى عدم تنفيذ الحكومة المركزية أي ملاحقة قضائية بحق أفراد من القوات المسلحة على مدى 28 عاماً.
أدى ذلك إلى معاناة 45% من السكان البالغين في وادي كشمير من أعراض الاضطراب العقلي، 41% منهم تظهر عليهم علامات اكتئاب محتمل، و26% قلق محتمل، و19% اضطراب ما بعد الصدمة، وفق ما أظهره تقرير مسح الصحة العقلية في كشمير الصادر عن منظمة أطباء بلا حدود في الهند عام 2015، والذي أشارت نتائجه إلى أن متوسط ما شهده شخص بالغ يعيش في وادي كشمير من صدمات يمكن تقديره بـ 7.7 أحداث يجمع ما بين الاضطرابات الثلاثة (الاكتئاب والقلق، واضطراب ما بعد الصدمة) التي تتصاعد في حياة الكشميريين.
ويؤكد تقرير مسح الصحة العقلية الذي شمل 5600 أسرة في 400 قرية في مقاطعات وادي كشمير العشر أن المؤشرات السابقة تبدو مثيرة للقلق في ثقافة الغالبية المسلمة التي تعتبر التفكير في الانتحار أو الإقدام عليه خطيئة جسيمة، ويعد التعبير العلني عنها مؤشراً قوياً على اليأس وانعدام المنظور المستقبلي بين الأهالي وفق التقرير، الذي حذر من نقص في الأطباء والاختصاصيين النفسيين الكشميريين، ومحدودية خدمات المشورة على مستوى المقاطعات.
وضع يشكو منه مستشفى الأمراض النفسية الحكومي في سريناجار المخصص لرعاية سكان منطقة وادي كشمير، فضلاً عن استقباله مرضى من المناطق المجاورة، مثل ولداخ، إحدى مناطق ولاية جامو وكشمير، وينتهي الأمر بالعديد منهم إلى مآسٍ، حسبما يقول الدكتور مشتاق أحمد فردوس لـ"العربي الجديد"، مضيفاً أن المستشفى لا يمكنه القيام بواجبه في ظل النقص الكبير في عدد الكوادر الطبية والاختصاصيين النفسيين، إذ قد يصل عدد المترددين عليه إلى 300 مريض في بعض الأيام.
الحياة في سجن كبير
في 5 أغسطس/ آب 2019، ألغت حكومة ناريندرا مودي اليمينية القومية المتطرفة المادة 370 من الدستور الهندي، التي تعطي كشمير الحكم الذاتي، وفُرض الحظر الكامل للاتصالات لمدة شهر بعد تلك الفترة وفق إعجاز أحمد بهات، كبير اختصاصيي علم النفس العيادي الذي يعمل مستشاراً لمؤسسة مائيند غورو لايف (مؤسسة غير حكومية عاملة في كشمير تهدف إلى علاج الأمراض النفسية)، قائلاً: "لقد عزل الجميع، ما زاد من الإحباط وشعور الكشميريين بأنهم في سجن".
تزامن إلغاء تلك المادة من الدستور مع إغلاق المدارس والجامعات بسبب جائحة كورونا، ما جعل الطلاب يعيشون في حالة فراغ، إضافة إلى ما تواجهه عائلاتهم من صعوبات مستمرة بسبب التباطؤ الاقتصادي المستمر، وفق جاويد أحمد تاك الذي أكد حدوث أكثر من 100 حالة انتحار بين القاصرين (تراوح أعمارهم بين 12 و18 عاماً) في وادي كشمير حتى سبتمبر/ أيلول 2020، موضحاً أن "هؤلاء الأطفال يفتقرون إلى وسائل وطرق التنفيس عن غضبهم وعواطفهم في مكان مرهق بالفعل مثل كشمير".
واقع مؤلم سبّب انتحار الطفل عادل آصف مقبول شيخ (12 عاماً) الذي شنق نفسه بحبل فوق سطح منزل عمه في قرية بلبل نوجام في أنانتناغ في أغسطس 2019، بعد نزول أبناء عمه الذين كان يلعب معهم، وفق رواية والده، متابعاً بالقول: "لم يظهر عادل أي علامات اكتئاب أو قلق، إنه كالأطفال الآخرين في مثل سنه، افتقد الحضور في المدرسة مع أصدقائه، لكن لم يكن عليه أن يقتل نفسه من أجل ذلك".
وظل الكشميريون قبل ذلك التاريخ عرضة للاعتقال التعسفي من قبل قوات الأمن الهندية التي اعتقلت ألف شخص بينهم أطفال خلال الفترة من مارس 2016 حتى أغسطس 2017، وفق ما أكده تقرير حالة حقوق الإنسان في كشمير، الذي أوصى بإلغاء قانون الصلاحيات، وإجراء تحقيقات مستقلة وحيادية وموثوقة للتحقيق بشأن كل أعمال قتل المدنيين منذ يوليو 2016 وغيرها من الانتهاكات؛ وتقديم التعويضات وإعادة التأهيل لجميع الأفراد المصابين وأسر الأشخاص الذين قُتلوا في سياق العمليات الأمنية، وتحقيق العدالة لكل سكان كشمير الذين عانوا على مدى عقود نزاعاً قضى على حياة العديد من الأشخاص أو دمَّرها، وفقاً للتقرير ذاته.
لكن مصادر هذا التحقيق تؤكد استمرار العنف في كشمير حتى الآن، ومنهم مدثر عزيز، وهو معالج نفسي في مركز الإدمان غير الحكومي في بلدة اننت ناغ (تقع على بعد 53 كيلومتراً من سريناجار عاصمة ولاية كشمير)، والذي قال لـ"العربي الجديد": "نعيش في منطقة نزاع والضغط اليومي الناجم عن إدارة سبل العيش القاسية وفرص العمل الضئيلة غير المتوافرة أمام الشباب الكشميريين، والخلافات الزوجية، والعلاقات الفاشلة، والبطالة، ونقص الفرص، ونقص وسائل التنفيس عن الغضب كلها عوامل تؤدي إلى الاكتئاب، وفي النهاية إلى الميول الانتحارية".