يعتبر السبعيني الأميركي من أصول باكستانية محمد إلياس نفسه محظوظاً لأنه نال وظيفة مشرف إداري في عيادة بـ Falls Church في ولاية فرجينيا، إذ إن تكاليف المعيشة المرتفعة تجبره على العمل حتى بعد وصوله إلى هذا السن، كما أن أصحاب العمل يفضلون توظيف الشباب الذين يطلبون أجوراً أقل ولا يمرضون كثيراً، ما يصعب من إيجاد عمل لمن في عمره.
ويعد إلياس واحداً من بين 1.7 مليون متقاعد أميركي عادوا للعمل منذ بداية العام الماضي وحتى إبريل/نيسان 2021، بسبب صعوبة حصولهم على مبلغ يسمح بتقاعد مريح، حسب بيانات نشرها في 18 مايو/ أيار 2022 نيك بانكر الباحث الاقتصادي في محرك Indeed (بحثي أميركي متخصص في التوظيف)، مشيراً إلى أن 56℅ من المتقاعدين العائدين للعمل حصلوا على وظائف ضمن نظام الدوام الجزئي.
الادخار لتقاعد مريح
تختلف سن التقاعد في الولايات المتحدة الأميركية، بحسب قوانين الولايات، وتعدّ مقاطعة كولومبيا التابعة للعاصمة واشنطن الأعلى من حيث ارتفاع سن التقاعد والتي تصل إلى 67 عاماً، فيما يعتبر عمر التقاعد في ألاسكا الأقل بمعدل 61 عاماً، واستناداً إلى بيانات مؤسسة The world population review (مستقلة ومتخصصة في البيانات الرقمية) فإن أعلى عشر ولايات من حيث المعيشة وتحتاج إلى ادخار أعلى ليتمكن المتقاعد فيها من العيش بأريحية على التوالي هي: هاواي وكاليفورنيا ونيويورك وألاسكا وأوريغون وكونيتكت ونوجيرسي وماساشوستش وميريلند وفي المرتبة العاشرة ولاية مين.
وحتى يتقاعد الفرد بأريحية في الولايات المتحدة الأميركية لا بد أن يكون قد ادخر ما بين 617.661 و1.84 مليون دولار أميركي، حسب الموقع ذاته، لكن أنطوني رعد، المستشار المالي لجمعية رجال الأعمال العرب الأميركيين، يرى أن مفهوم التقاعد المريح يختلف من شخص إلى آخر حسب أسلوب الحياة الذي يتبعه، والمكان الذي يعيش فيه، لذلك يجمع متخصصون ماليون على ضرورة ادخار مبلغ يكفي لخمسة وعشرين عاماً، ويمكن المتقاعد من إنفاق 80% مما كان يتقاضاه الفرد شهرياً، وعلى سبيل المثال إذا كان أحدهم يتقاضى 75.000 دولار سنوياً خلال عمله، لا بد أن يدخر 1.5 مليون دولار قبل بلوغه 65 عاماً، وكلما بدأ في الادخار مبكراً سهل تحصيل المبلغ، بحسب رعد.
لكن 49% من الأميركيين بين سن 55 و66 عاماً لم يكن لديهم أي مدخرات حتى عام 2017، بحسب استطلاع نشره مكتب الإحصاء الأميركي في يناير/ كانون الثاني من عام 2022، تحت عنوان المتزوجون مرة واحدة أكثر احتمالاً أن يكون لديهم مدخرات تقاعد.
1 من كل 10 مسنين يعيش تحت خط الفقر
يقدر عدد الأميركيين الذين بلغت أعمارهم 65 عاماً فما فوق بـ 54.1 مليون نسمة حتى عام 2019، بحسب تقرير بعنوان لمحة عن كبار السن الأميركيين الصادر في مايو/ أيار 2021 عن دائرة الحياة المجتمعية التابعة لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية، والذي قال إن 1 من كل 10 مسنين يعيش تحت خط الفقر.
وبالنسبة إلى العرب الأميركيين ممن ولدوا في دول عربية وهاجروا إلى أميركا، فإن 30% ممن بلغوا سن 40 فما فوق يعيشون تحت خط الفقر، في حين تقدر نسبة العرب المولودين في أميركا والذين يعيشون تحت خط الفقر بـ 13%، وفق دراسة للباحثة كريستين جي أجروش البروفيسورة في جامعة ميشيغن ومديرة مركز Michigan Center for Contextual Factors in Alzheimer's Disease (MCCFAD)، تحت عنوان التفاوتات في الإعاقة الوظيفية بين العرب الأميركيين حسب المهد، الوصول إلى المهجر وبلد الميلاد، الصادرة في مايو/ أيار 2022.
وبحسب مكتب الإحصاء الأميركي فإن 37.2 مليون شخص، أي ما نسبته 11.4% من سكان الولايات المتحدة، كانوا يعيشون في فقر خلال عام 2020، بناءً على عتبات الفقر الرسمية والتي تقدر بـ 52.492 دولاراً أميركياً سنوياً لأسرة مكونة من شخصين بالغين وطفلين، ويزيد هذا المبلغ مع عدد الأشخاص في الأسرة، وتعتبر الأسر المؤلفة من 4 أفراد ويقل دخلها السنوي عن 13.123 دولاراً تعيش في فقر مدقع، وبلغت نسبة هذه الأسر 5.5% من السكان عام 2020، أي ما يعادل 89.7 مليون شخص يعيشون تحت عتبة الفقر.
وتؤكد كريستين جي أجروش في مقابلة مع "العربي الجديد" أن ما يشاع بأن العرب الأميركيين من بين الأكثر تعليماً ودخلاً في أميركا تفنده الدراسة التي كشفت أن غالبيتهم أقل تعليماً وأكثر فقراً، وعلى سبيل المثال، فإن العرب الأميركيين في مقاطعة وايني في ولاية ميشيغن تزيد نسبة فقرهم وضعف تعليمهم على الأميركيين البيض بثلاث مرات.
وعلى خلاف أقرانهم في الدول الغنية، يواجه المسنون الأميركيون عوائق كبيرة للحصول على الرعاية الصحية، فعلى الرغم من البرامج التي أعلنتها الحكومة الفيدرالية الأميركية، على غرار ميديكير Medicare، وهو برنامج فيدرالي يغطي خدمات رعاية صحية معينة لمن هم فوق الـ 65، كما يمكن لم هم أقل سناً ويعانون إعاقة أو بعض الأمراض، على غرار الفشل الكلوي، الاستفادة منه، إلا أن عدم تغطية التكاليف بشكل كامل يبقى له الأثر البالغ على الوضع الصحي لهذه الفئة، بحسب دراسة نشرت في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول عام 2021 على موقع صندوق الكومنولث (منظمة أميركية خاصة تنشط في مجال تطوير قطاع الصحة)، بعنوان "عندما تكون التكاليف عائقاً أمام الحصول على الرعاية الصحية: التقارير الواردة من كبار السن في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان ذات الدخل المرتفع"، وتوصلت الدراسة إلى أن خمس الأميركيين المسنين أنفقوا خلال عام 2020 أكثر من 2000 دولار أميركي من جيوبهم للعلاج، ويدفع المسنون الأميركيون مقابل التأمين الصحي أكثر من أقرانهم في الدول الأخرى ذات الدخل المرتفع ولا يحصلون على الرعاية الصحية في الكثير من الحالات بسبب ارتفاع تكاليفها.
وتأتي الولايات المتحدة الأميركية في المرتبة 17 من حيث رفاهية المتقاعدين حسب تقرير مؤشر التقاعد العالمي لعام 2021 الصادر عن Natixis (بنك استثمارات فرنسي)، بعنوان البحث عن تقاعد آمن في عالم غير آمن، في حين احتلت كل من أيسلندا وسويسرا والنرويج وهولندا ونيوزيلندا وأستراليا وألمانيا والدنمارك وكندا المراتب الأولى من حيث معدل رفاهية المتقاعدين فيها.
ضغوطات مالية
تصف لورا شوارتز؛ مستشارة سابقة لدى إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون، خلال حديثها لـ"العربي الجديد"، اضطرار المتقاعدين إلى العمل بأنه "أمر محزن ومؤسف"، معتبرة أنهم قاموا بواجبهم تجاه المجتمع، لكن ارتفاع نسبة التضخم وما تبعه من ارتفاع في أسعار الوقود والمواد الاستهلاكية يجبرهم على العودة إلى العمل، لأن ما يتقاضونه لا يكفي لتلبية متطلبات حياتهم اليومية، قائلة إن غالبية المتقاعدين في الماضي كانوا يعملون بدوام جزئي ليحافظوا على نشاطهم وصحتهم، أو ليستغلوا وقتهم في وظيفة يتعلمون من خلالها أشياء جديدة بغرض المتعة ولساعات قليلة في اليوم، أما اليوم فإن احتياجات الحياة تدفعهم للعمل.
ما سبق تؤكده نتائج استطلاع ورد في التقرير السنوي الصادر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 عن مركز Transamerica Center for Retirement Studies (مؤسسة غير ربحية مختصة في البحث حول التقاعد والصحة والرفاهية المالية)، توصلت إلى أن 57℅ من العمال الأميركيين يخططون للعمل بعد التقاعد، 20% منهم يريدون العمل بدوام كامل، بينما عبر 37% عن رغبتهم في العمل بدوام جزئي، وأرجع 54% منهم سبب هذا الخيار إلى الاستمرار في النشاط للمحافظة على الصحة، ويؤكد 53% من المستجوبين أن دوافع القرار مادية.
ويستعين اثنان من بين كل 4 موظفين أميركيين بمستشار مالي محترف لمساعدتها في التخطيط للادخار أو استثمارات التقاعد، بحسب التقرير ذاته، و24% فقط من العينة قالوا إن لديهم ثقة بأنهم سيتمكنون من التقاعد بأريحية.
أما العرب الذين تتجاوز أعمارهم سن الـ 65 حسب بيانات البروفيسورة كريستين جي أجروش، فإن 29% منهم ما زالوا يعملون، وتقاعد 54%، بينما 16% عاطلون عن العمل أو لم يشتغلوا أبداً، مؤكدة أن العرب الأميركيين في سن الـ 65 أكثر احتمالاً أن يكونوا غير متقاعدين مقارنة بأقرانهم البيض والسود.
العرب الأميركيون الأقل تخطيطاً للتقاعد
تحاول الممرضة الثلاثينية كايا كيرابع، أميركية من أصول جزائرية، والتي تعيش في ولاية كاليفورنيا، الادخار لتقاعدها من خلال مخطط K401 (يسحب من خلاله أصحاب العمل مساهمات تلقائية من رواتب الموظفين للاستثمار والاستفادة منها في التقاعد)، ولمواجهة صعوبة الحياة وتحمل مصاريف طفلين تعمل كايا أيضاً مدربة لرياضة الزومبا، كما تستعد للالتحاق بالجامعة واستكمال دراستها لتصبح طبيبة، سعياً منها لمستقبل أفضل.
وفي غياب إحصائيات حول عدد العرب الأميركيين الذين يعتمدون خططاً للتقاعد، يوضح الأميركي من أصول جزائرية مولود بوربط، المحاسب المتخصص في الضرائب في مكتب Liberty Tax Service الخاص في ولاية شيكاغو، أن غالبية زبائنه يزاولون أعمالاً حرة، ولا يعتمدون خطة للتقاعد ولا يكشفون عن القيمة الحقيقية لمداخيلهم، تجنباً لدفع ضرائب مرتفعة، لكن حين يصلون إلى سن التقاعد يصطدمون بالمبلغ الضئيل الذي يمنح لهم، ولا يتعدى معدل ما يتلقاه المتقاعدون العرب من زبائنه حدود الـ 6 آلاف دولار سنوياً، وفق قوله.
وبحسب وصف ليلى الحسيني، الأميركية من أصول سورية، ومديرة إذاعة راديو صوت العرب من أميركا (إذاعة محلية تبث من ولاية ميشيغن)، فإن "أميركا التي توفر فرصاً للشباب لا تضمن الرفاهية للمتقاعدين، خاصة حين يكون معدل التقاعد في الولايات المتحدة الأميركية لا يتعدى ألفي دولار، هو مبلغ لا يغطي في غالب الأحيان حتى إيجار البيت"، وعند سؤالها عما تخططه للتقاعد قالت الحسيني إنها تفضل التقاعد في إحدى الدول العربية حيث يضمن لها فارق العملة حياة أكثر رفاهية.
ويشير رعد إلى أن الجيل الأول من العرب الأميركيين أتوا إلى هذه البلاد دون أي مدخرات، وبالتالي كان همهم الوحيد كيف ينهون الشهر دون ديون، وبالتالي فإن احتمالية الادخار للتقاعد قليلة جداً، أما الجيل الثاني فإن العائق بالنسبة لهم يكمن في غياب ثقافة الادخار من خلال مخطط 401k.
من جانبه يرى الدكتور عبد المجيد قطرنجي، أميركي من أصول سورية ومؤسس ومدير مركز قطرنجي لجراحة اليد، والنشط في قضايا الجاليات العربية في أميركا، أن ارتفاع الضريبة على البيت إلى حد 5 آلاف دولار سنوياً يشكل عائقاً أمام الادخار، بالإضافة إلى أن المسنين من العرب يواجهون مشكلات تحتاج إلى إنفاق مالي، خاصة في حال البقاء بمفردهم لدى مغادرة الأبناء للعيش في بيوتهم الخاصة أو الانتقال لولايات أخرى من أجل العمل، قائلاً: "على الجالية العربية تكثيف النشاط واستحداث استراتيجيات لخدمة هذه الفئة مثلما تفعل الجاليات الأخرى".