استمع إلى الملخص
- **تدهور الأوضاع الصحية والاكتظاظ**: السجون تعاني من اكتظاظ شديد وسوء التغذية، مع نقص الأطباء والأدوية، مما يزيد من تفاقم المشاكل الصحية.
- **جهود غير كافية لتحسين الأوضاع**: رغم محاولات التعاون مع منظمات دولية ومحلية، إلا أن الأوضاع ما زالت سيئة بسبب رفض الأطباء التعاقد مع السجون.
يدفع سجناء وموقوفون لبنانيون ثمن إفلاس الدولة، إذ يموتون مرضاً بسبب عدم توافر الأطباء والعلاج، بينما تتصل إدارات المؤسسات العقابية بذوي من يعانون الداء وتطلب نفقات الدواء، أو تكلفة الإحالة على المستشفيات.
- تتلقى عائلة علي حموضة، الموقوف اللبناني في سجن القبة بطرابلس شمالي البلاد، اتصالات كثيرة من محبسه، تطلب فيها الإدارة تأمين التكاليف المطلوبة من أجل نقله إلى المشفى للعلاج، جراء إصابته في فبراير/شباط 2022 برصاصة في بطنه اخترقت الأمعاء في أثناء محاولة الجيش فضّ احتجاجات شكلت امتداداً للغضب الشعبي الذي تفجر منذ أكتوبر/تشرين الأول عام 2019.
تتهم الدولة حموضة بـ "معاملة قوى الأمن بالشدة" خلال مشاركته في مظاهرات وقعت في محافظة عكار شمالي البلاد، ويقول والده محمد سميح لـ"العربي الجديد": "الهموم أثقلت حياتنا، بالكاد نتدبر أمر المصروفات اليومية، ومطلوب مبالغ باهظة لتغطية علاج علي، وفي كل مرة يحتاج إلى تدخل، وتعجز إدارة السجن عن توفير المطلوب من خلال المساعدات والجمعيات الأهلية، فتتصل بنا ولا نعرف ماذا نفعل".
الأمر ذاته يتكرر مع أم ربيع التي فضلت عدم ذكر اسمها بالكامل، حفاظاً على خصوصية أسرتها وابنها الموقوف في سجن القبة كذلك، وتقول بينما تنهمك في عملها بالشارع: "احتاج ابني أخيراً إلى طبيب أسنان، ولا يوجد مختص في السجن، اضطررت إلى العمل في بيع القهوة من أجل تأمين 150 دولاراً لتغطية نفقات علاجه".
وعلى الرغم من معاناة الأسرتين، لكن استمرار ابنيهما على قيد الحياة أفضل من ذوي 37 سجيناً توفوا خلال عام 2023 ، و10 آخرين قضوا منذ مطلع العام الجاري ولغاية 9 سبتمبر/أيلول 2024 في السجون اللبنانية، بسبب نقص الأطباء وظروف الرعاية الهزيلة، ومن ثم تدهور أحوالهم الصحية، خصوصاً من يعانون أمراضاً مزمنة، وفق إفادة نجيب بعقليني رئيس جمعية عدل ورحمة (غير حكومية تعنى بالدفاع عن حقوق الإنسان والسجناء)، والذي عبّر عن أسفه لأن السجون وأحوالها المتردية ليست على جدول أولويات الحكومة، ما أدى إلى تدهور الأحوال الصحية في سجن رومية أكبر مؤسسات البلاد العقابية، ومن ثم زحلة والقبة.
السجناء والموقوفون يدفعون ثمن إفلاس البلاد
يعاني السجناء من سوء نوعية الغذاء، وضيق المساحات المخصصة لهم جراء التكدس الهائل، وهو عامل خطير يخلق مشاكل صحية كبيرة، خصوصاً إذا ترافق مع ندرة الرعاية الصحية والنقص الحاد في عدد الأطباء، كما تقول الباحثة المختصّة بالشأن اللبناني في منظمة العفو الدولية، سحر مندور.
وتفاقمت مشكلة نقص الأطباء وضعف الرعاية الصحية في السجون، بعد "إفلاس الدولة ومصرف لبنان المركزي"، في إبريل/نيسان 2022، لكن الأسوأ، كما تقول مندور، تعامل إدارات السجون مع الوضع القائم باعتباره أمراً مسلماً به، رغم مسؤوليتهم عن رعاية الموقوف والمحكوم صحياً، لكن ما يحدث فعلياً هو إلقاء المسؤولية على الأهالي عبر مطالبتهم بتأمين تكاليف العلاج، وهو ما تؤكده خمس من أسر السجناء الذين قابلهم "العربي الجديد".
وفاة 37 سجيناً خلال العام الماضي في لبنان
وتحصر مندور التي شاركت في إعداد دراسات حول السجون اللبنانية، أهم مظاهر الأزمة في عدم وصول الدواء إلى السجناء بسبب فراغ صيدليات السجون من العلاج، فضلاً عن عدم وجود أطباء مختصين لتشخيص طبيعة المشاكل الصحية، ومدى حاجة الموقوف إلى نقله للعلاج في مشفى تتوافر فيه الإمكانات اللازمة.
ولمعاينة ما سبق نفذ معد التحقيق زيارة ميدانية لسجن القبة نهاية العام الماضي، الذي كان يضم 850 سجيناً وقتها، ودخل باعتباره صحافياً، واشترطت الإدارة عدم التصوير أو استخدام أي أجهزة، في مقابل اطلاعه على الأوضاع، وتبين وجود عيادة للعلاج النفسي، وكذلك غرفة لطب الأسنان تقدم العناية الأولية، وصيدلية توافر فيها بعض المسكنات والفيتامينات وأصناف من الأدوية المهدئة ومعدات الإسعاف الأولي، بالإضافة إلى غرفة إسعافات يعمل فيها ممرض واحد.
لكن عبر الحديث مع العاملين، اتضح أن جمعية تبرعت بترتيب غرف العيادات، التي يصف ذوو السجناء دورها بـ "الشكلي وغير الفعال"، إذ يحضر إلى السجن طبيب واحد ويداوم ثلاث مرات في الأسبوع واختصاصه صحة عامة، ويعاين المرضى المسجلة أسماؤهم على قائمة توضع قبلها بيوم، بواسطة ضابط السجن وبالتعاون مع الشاويش الذي يجول على الغرف للتسجيل، وفي اليوم التالي لإتمام القائمة، يفحصهم الطبيب ويقدم إليهم الدواء إذا توافر، وإلا يجب على المرضى تأمين العلاج على نفقتهم، وإن احتاج أحدهم إحالة على المشفى يمكن التنسيق لذلك.
و"لا يكفي وجود طبيب واحد لتأمين العناية اللازمة للسجناء" وفق إفادة مسؤول في المركز الطبي التابع لسجن القبة، يحتفظ "العربي الجديد" باسمه لكونه عسكرياً غير مخول بالحديث مع وسائل الإعلام، ويؤكد المصدر، وجود طبيبين سابقاً، لكن أحدهما استقال بسبب الأوضاع، ويشرح ما كان جارياً سابقاً، بأن الطبيبين كانا يتناوبان على العمل ثلاثة أيام لكل منهما، بينما في الوضع الراهن أصبح السجن بلا طبيب لمدة أربعة أيام أسبوعياً، وهو الوضع المستمر منذ عام 2022، ومن وقتها تقدمت إدارة السجن بكتاب رسمي إلى المديرية العامة للأمن الداخلي من أجل التعاقد مع طبيب إضافي، إلا أنها لم تنجح لعدم تقدم أي راغب في شغل الوظيفة، بسبب العائد المادي الضئيل جداً.
أما سجن رومية شرقي بيروت، فيضم 3619 موقوفاً ومحكوماً بحسب أحدث إحصائية أصدرتها في 21 أغسطس/آب 2024 لجنة السجون في نقابة المحامين ببيروت، ويضم المركز الصحي في السجن صيدلية ومستوصفاً طبياً، ويعمل طبيب صحة عامة فيه، بعدما كان يضم عدداً أكبر من الأطباء، الذين تخلفوا عن أداء واجبهم في تقديم الرعاية المطلوبة للسجناء بسبب عدم دفع الأجور الملائمة والاكتظاظ الهائل، قبل أن يغادروا عملهم تماماً، وفق توضيح الحقوقي بعقليني، الذي تبحث الجمعية التي يديرها عن متطوعين وتتعاون مع جهات أهلية لتأمين الخدمات الصحية للسجناء.
كيف تصاعدت الوفيات في السجون؟
يؤكد تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية بعنوان: "بدلاً من أن يحظى بإعادة تأهيل، لقي حتفه - لبنان: تضاعف عدد الوفيات في الحجز في خضم أزمة اقتصادية مستمرة منذ أربع سنوات"، الصادر في 7 يونيو/حزيران 2023، أن الوفيات في مرافق الحجز التي تديرها وزارة الداخلية تضاعفت عام 2022 مقارنة بعام 2018، وهو العام الذي سبق بداية الأزمة المستمرة حتى اليوم، وكشفت الوزارة في رسالة إلى المنظمة في يناير/كانون الثاني 2024 أن 34 شخصاً توفوا خلال عام 2022 في السجون المركزية ومراكز الاحتجاز في قصور العدل ومخافر الشرطة، بينما كان عدد الوفيات 18 شخصاً عام 2018، وسُجلت 14 وفاة عام 2015. وتوصلت المنظمة بعد الاطلاع على التقارير الطبية وإجراء مقابلات مع محتجزين وسجناء وأسرهم ومحاميهم، إلى أن الزيادة في عدد الوفيات لم ترتبط فقط بالأزمة الاقتصادية التي فاقمت مشكلات الاكتظاظ وسوء المرافق الصحية وضعف الرعاية، بل بحالات تقصير من سلطات السجون والجهات الطبية في تقديم الرعاية المطلوبة للنزلاء في الوقت المناسب.
النتيجة السابقة تتوافق مع ما توصل إليه تحقيق "العربي الجديد" من أن استهتار إدارات السجون وعدم تصحيح الأوضاع يفاقمان الوفيات، كما في حالة اللاجئ السوري نضال بربور الذي توفي في أثناء توقيفه في سجن القبة، وتعزو أسرته سبب وفاته في 12 سبتمبر 2022 إلى تقصير إدارة السجن في نقله إلى المشفى، إذ تكررت شكواه من شعوره بضيق في الصدر وآلام، لكونه يعاني ضعفاً في عضلة القلب، ورغم توسلات السجناء المستمرة للحرس من أجل نقله للعلاج، لكنهم طلبوا منه الاكتفاء بتناول حبتي بنادول، بحسب رواية السجناء للأسرة، التي نقلها إلى معد التحقيق ابن خال الضحية هيثم بربور.
ويكشف تقرير الوفاة الصادر عن مستشفى طرابلس الحكومي، والذي حصل عليه "العربي الجديد" أن الضحية وصل إلى المستشفى متوفىً بسبب توقف في التنفس والقلب.
ويعيش ذوو السجناء في رعب وقلق بعد بلوغهم نبأ وفاة أحد الموقوفين، وليس لهم حديث سوى عن الأوضاع غير السليمة داخل السجون بسبب نقص التجهيزات الصحية وعدم توافر الأدوية أو الأطباء، والاكتظاظ إذ يتوزع 6388 سجينا وسجينة (محكومين وموقوفين) على 24 سجنا، أكثرها اكتظاظا هو سجن رومية، يليه سجن القبة - رجال، بحسب آخر تحديث صادر عن لجنة السجون في نقابة المحامين ببيروت. وأدى التكدس إلى أن تصبح مهاجع السجون موبوءة بسبب الأعداد الهائلة، وفقا للمحامي محمد صبلوح، مدير برنامج الدعم القانوني في مركز سيدار للدراسات القانونية (غير حكومي) والذي يمثل قانونياً ضحايا التعذيب والاحتجاز التعسفي على المستويين المحلي والدولي، موضحا أن الغرفة التي تتسع لثمانية سجناء، يقيم فيها 30 سجيناً، ينامون على الأرض، ولا تتوافر أماكن لعزل المرضى، كما تنتشر داخل السجن، أمراض جلدية بسبب قلة النظافة، والعدوى التنفسية في ظل النقص في العلاجات التي تقتصر على المسكنات.
يبقى الحال كما هو عليه
"لن يقبل طبيب بالتعاقد من أجل العمل داخل سجن يعاني ظروفاً سيئة وضاغطة في مقابل مالي ضئيل للغاية"، بذلك يلخص الأوضاع الصحية في السجون طبيبُ صحة عامة يعمل في رومية، وطلب عدم ذكر اسمه تجنباً لتعرضه لمشاكل في عمله، مشيراً إلى أن مشكلة تهرب الأطباء قديمة، بسبب صعوبات العمل، حتى حين كان البدل 200 دولار يومياً، وكان الدولار يعادل حينها 1500 ليرة لبنانية، ومن ثم جاء الانهيار المالي ليفاقم المشكلة، إذ تدنت قيمة البدل اليومي إلى 600 ألف ليرة، أي ما يعادل 7 دولارات أميركية (الدولار يعادل 90 ألف ليرة لبنانية)، بحسب ما يكشفه مصدر أمني في سجن القبة يرفض ذكر اسمه لكونه غير مخول بالتواصل مع وسائل الإعلام، مؤكداً أن الصليب الأحمر يدفع 20 دولاراً أميركياً لتشجيع الأطباء الموجودين على البقاء، بالإضافة إلى 20 لتراً من البنزين، لكن الأمر لم يكن مجدياً، خصوصاً بعد دولرة الأنشطة الاقتصادية، إذ تبلغ قيمة المعاينة الطبية في العيادة الخاصة ما بين 30 و40 دولاراً أميركياً، وتصل إلى 100 دولار في بعض عيادات بيروت، أي إن "عائد الكشف على مريض واحد يتجاوز قيمة أسبوع عمل في السجن"، كما يؤكد المصدر الأمني، وهو ما يدفع الأطباء إلى عدم التعاقد مع السجون.
يرفض الأطباء التعاقد مع السجون بسبب ضعف الأجور
كذلك، يلقي الازدحام الشديد بظلاله على عمل الأطباء ودقته، إذ إن "وضع ستة سجناء في غرفة مخصصة لثلاثة فقط، ومعهم متعلقاتهم الشخصية، يجعل الحال مأساوياً"، كما يصفه الطبيب العامل في سجن رومية، والذي يتذكر حادثة تؤكد خطورة الوضع، قائلاً: "سبق أن طلبنا 1250 علبة دواء للجرب بسبب الازدحام. ففي هذه الحالة، عند تشخيص مصاب واحد، نحن ملزمون بمعالجة جميع نزلاء الغرف ووقايتهم من انتقال المرض إليهم".
مسؤولية من؟
تقرّ المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في ردها على "العربي الجديد" أن "الأوضاع في السجون ليست في أحسن أحوالها، وأنها تسعى لطلب المساعدة من المنظمات الدولية والجمعيات المحلية لسد العجز لدى السلطات الرسمية، وفي حال لم تقدم الدعم المطلوب، تلجأ إدارة السجون إلى الأهالي للتكفل بعلاج السجين".
ومن وجهة نظر المديرية، "تتجه الحلة تحو التحسن، بسبب دخول عاملين جدد من جهة، ومن جهة أخرى بدأت القوى الأمنية بالتعاون مع الحكومة بتأمين مبالغ بالليرة اللبنانية من ضمن الموازنة العامة وتقديمها لصالح المستشفيات المتعاقدة على أن تقدم بعض التخفيضات لعلاج السجناء، كما بدأ أطباء تابعون لمنظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر الدولي بتقديم خدماتهم في بعض السجون، وتحديداً في سجن رومية المركزي أكبر السجون اللبنانية"، كما ترى المديرية أن الاستقرار النسبي لسعر صرف الدولار الأميركي بدءاً من يونيو 2023 ساهم في تحسين الوصول إلى الخدمات الصحية، ما منح شيئا من الطمأنينة للمستشفيات بأن المبالغ المستحقة لها لن تخسر قيمتها بسبب الانهيار السريع.
أما وزارة الصحة، "فيتخذ عملها الطابع التنسيقي، لأنها لا تمتلك الميزانية الكافية لتقديم الخدمات الطبية للسجناء، على سبيل المثال حين تُبلغ قوى الأمن عن حاجة مريض إلى تكاليف للعلاج، ولا يمكنها إلا تغطية جزء من الكلفة بما تسمح ميزانيتها، عندها تتحرك الوزارة مع منظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر الدولي لتأمين المبالغ الإضافية في محاولة لتغطية حاجات السجين"، بحسب توضيح عاتكة بري المسؤولة عن قسم إدارة المستشفيات في وزارة الصحة اللبنانية.
ورغم تلك الوعود وهذه المحاولات، يبقى الحال في السجون شديد السوء ويتجه إلى المزيد من التفاقم، حتى ان المحامي صبلوح يصف ما يراه قائلا: "في الحقيقة، يموت السجين قبل أن يحصل على حبة الدواء".