مافيا النفايات الإيطالية... صوماليون ضحايا مخلفات نووية وسامة

مقديشو

أحمد محمود جيسود

أحمد محمود جيسود
أحمد محمود جيسود
أحمد محمود جيسود
18 ابريل 2022
كيف أصبح الصوماليون ضحايا المخلفات النووية الأوروبية؟
+ الخط -

يكشف تحقيق "العربي الجديد" الاستقصائي، عن آثار ظهور حاويات نفايات نووية وسامة، دفنت في تسعينيات القرن الماضي بالساحل الصومالي عبر مافيات إيطالية استغلت الحرب الأهلية، ما نشر أمراضاً خطيرة بين الأهالي .

- فوجئ مسؤولو بلدية مدينة Degmada Cadale بإقليم شبيلي الوسطى جنوب شرقي الصومال بظهور 18 حاوية على ساحل المدينة خلال فترات متفرقة ومن بينها ما جرى رصده في يونيو/حزيران 2020، مكتوب عليها حرفي H وM بشكل بارز ويغطي أحد جوانبها، كما بدت عليها آثار الصدأ، بحسب إفادة مختار محمد محمود، نائب رئيس البلدية، وهو ما وثقته "العربي الجديد" عبر مقطع مصور لإحدى هذه الحاويات الملقاة بجوار قارب صيد على شاطئ المدينة.

ويعني الحرفان H وM، أن ما يوجد داخل هذه الحاويات "نفايات خطرة"، بحسب "الأدلة الإرشادية لاختيار مواقع وتقييم الأثر البيئي لمدافن المخلفات الخطرة في المناطق شديدة الجفاف" والتي أعدها المركز الإقليمي للتدريب ونقل التكنولوجيا للدول العربية التابع لاتفاقية بازل، بين عامي 2004 و2005، وهو ما يؤكده الخبير البيئي الدكتور بشير محمد حسين، مستشار وزارة البيئة والزراعة في حكومة ولاية بونتلاند شمال شرق الصومال، موضحا لـ"العربي الجديد" أن الحرفين اختصار لـ Hazardous Materials (مواد خطرة) ويشترط على الشركات المصدرة للنفايات الخطرة وضعهما على تلك الحاويات.

حاوية نفايات خطرة

وبدأت حاويات النفايات المدفونة في الساحل الصومالي، بالظهور بعد إعصار تسونامي الذي وقع في ديسمبر/كانون الأول 2004، كما يقول حسين مشيرا إلى وجود حاويات للنفايات الخطرة في 13 منطقة واقعة على طول ساحل جنوب ووسط الصومال وبونتلاند، وهي "عدلي، بوصاصو، جروي، حافون، بارغال، هبيو، مريغ، جوهر، بردالي، مركا، جمامي، بيدوا، ومقديشو".

13 منطقة على الساحل الصومالي تحوي نفايات سامة

وبسبب مخاوف الأهالي من تلك الحاويات، تم فحص العديد منها خلال الفترة من 2005 حتى 2010، كما يقول أحمد يوسف أحمد، مدير عام البيئة وتغير المناخ في مكتب رئيس الوزراء الصومالي، وتأكد كونها تحوى مواد مشعة ونفايات سامة تشكل خطورة كبيرة على حياة الصوماليين.

الصورة
مواقع دفن النفايات بالصومال
مواقع دفن النفايات بالصومال
المصدر: (تقرير الأمن النووي والصومال)

إغراق الصومال بالنفايات الخطرة

"تم التخلص من النفايات السامة في الصومال بشكل غير شرعي، بواسطة شركات إيطالية وسويسرية في تسعينيات القرن الماضي"، بحسب تقرير "السفن السامة" الصادر عن منظمة السلام الأخضر (بيئية عالمية) في عام 2010.

واستغلت عصابات دولية انهيار الدولة الصومالية في عام 1990 وتبعات الحرب الأهلية، للتخلص بشكل غير قانوني، من مواد خطرة مثل المخلفات النووية وأخرى سامة بعضها تم دفنه بالمناطق الساحلية وأخرى داخل أراضي الدولة، حسبما يقول الدكتور إريك هيرينغ، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بريستول، وأحد معدي مقالة بحثية بعنوان "الأمن النووي والصومال" صدرت عن مجموعة تايلور وفرانسيس في 21 فبراير/شباط 2020، مضيفا لـ"العربي الجديد" أن النية والتخطيط المسبق للتخلص من النفايات النووية بالصومال أمر مؤكد بشكل قاطع، بحسب ما خلصت إليه تحقيقات برلمانية إيطالية استمرت سنوات عديدة ونظيرتها التي قامت بها جهات فاعلة مثل الأمم المتحدة.

ووقعت ثلاث عمليات إغراق للصومال بالنفايات، الأولى خلال الفترة بين ديسمبر1987 ويناير/ كانون الثاني 1988 أثناء تشييد طريق بين غروي وبوصاصو في بونتلاند، إذ قال سائقو شاحنات (كانوا ضمن العاملين في تشييد الطريق) للجنة التحقيق الإيطالية أنهم أُبلغوا بأن الحاويات التي تزن كل منها حوالي 20 كيلوغرامًا، تحتوي على "طلاء منتهي الصلاحية"، وجرى دفنها بموقع في الطريق يبعد 90 كيلومترا من بدايته والآخر بعد 140 كيلومترا على الطريق ذاته، كما يقول هيرينغ.

 تورط إيطالي في إغراق الصومال بالنفايات الخطرة

و"حدثت عملية الإغراق الثانية عند بناء ميناء عيل معان بالقرب من مقديشو خلال الفترة بين 1996 و1998، إذ تم التخلص من نفايات حاويات مشعة صارت جزءًا من أساسات رصيف الميناء، والتقط جيانكارلو ريتشي، والذي كان يعمل في الميناء خمس صور للحاويات، وقال للجنة التحقيق الإيطالية إن العمال الصوماليين قدروا أن حوالي أربعمائة حاوية دفنت هناك، فيما كانت الحالة الثالثة لإغراق البلاد بالنفايات النووية في الشمال الغربي غير المأهول من شبه جزيرة Xaafun في بونتلاند، والتي لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق البحر".

الوقائع السابقة، يؤكدها الخبير البيئي الصومالي، عبدالنور سعيد حسن، عضو مشروع قادة الواقع المناخي الأفريقي AFRICAN CLIMATE REALITY LEADERS (يعمل بالتعاون مع الحكومات والمنظمات غير الحكومية) عبر بيانات الأمم المتحدة، قائلا لـ"العربي الجديد": "توجد مواد كيميائية سامة في حاويات مدفونة على الطريق الرابط بين مدينتي غروي و بوصاصو، تحتوي على اليورانيوم والمعادن الثقيلة، مثل الكادميوم ونفايات المصانع والمستشفيات، كما هو الحال في المواقع التي وجد بها حاويات نفايات على طول ساحل جنوب ووسط الصومال وبونتلاند، وكل هذا من أجل إنفاق أقل من 2.5 دولار للتخلص من طن النفايات الخطرة، في حين يكلفهم ذلك 250 دولارا في حال تم ذلك في بلدانهم".

علاقة مافيا النفايات بأمراء الحرب

تثبت الأدلة (وثائق وشهادات من قبل بعض المتورطين) أن مجموعات مختلفة من مافيا كالابريا الإيطالية "ندرانغيتا" ومجرمين محترفين آخرين وسياسيين ومسؤولين فاسدين وشركات إيطالية وسويسرية، خططوا للانخراط في التخلص من النفايات السامة (بما في ذلك النووية) على أرض الصومال وفي مياهها، وفي بعض الحالات تم الأمر بموافقة الصوماليين، مقابل المال، كما يقول الدكتور هيرينغ، مضيفا أن الاهتمام الإيطالي بالصومال، يُفسر جزئيًا من خلال دورها السابق كقوة استعمارية في بونتلاند وجنوب ووسط الصومال.

وتورط جيدو غاريلي، رجل الأعمال الإيطالي الذي كان يقيم في مقديشو، ووسيط إيطالي يدعى ماروتشينو، وهو شخصية مركزية في عمليات الإيكومافيا  ecomafia (أنشطة متعلقة بالجريمة المنظمة والتي تسبب ضررا للبيئة) في التخلص من النفايات النووية، إذ اكتشفت السلطات الإيطالية أن ماروتشينو رتب شحن ما بين 2000 إلى 3000 برميل من النفايات في أغسطس/ آب 1997، مدعيا أنه حصل على موافقة من زعيم عشيرة محلي، وهو رئيس الصومال الراحل علي مهدي محمد (خلال الفترة من 1991 وحتى 2000)، والذي خاضت مليشياته مواجهات مسلحة مع مليشيات الجنرال محمد فارح عيديد، أحد أمراء الحرب الصوماليين حينها، وفق ورقة هيرينغ البحثية، وهو ما يؤكده البروفيسور عبدي إسماعيل سمتر، أستاذ الجغرافيا في جامعة مينيسوتا الأميركية، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أن مقديشو كانت منقسمة بين مليشيات تابعة للجنرال محمد فارح عيديد، وأخرى تابعة لزعيم الحرب القوي آنذاك علي مهدي محمد، ومناطق مقديشو وCadale وأورشيخ التي دفنت فيها حاويات النفايات كانت خاضعة لعلي مهدي، وهو من سمح بذلك، مقابل الحصول على المال. 

الصورة
مرسوم رئاسي يسمح للإيطالي إيزيو سكاليوني بإنشاء مركز لتخزين النفايات بالصومال
مرسوم رئاسي يسمح للإيطالي إيزيو سكاليوني بإنشاء مركز لتخزين النفايات بالصومال

ويؤكد تقرير "السفن السامة" أن "القنصل الفخري الإيطالي إيزيو سكاليوني، شارك بمعية الإيطالي جيانكارلو ماروتشينو (عاش في مديرية كاران شمالي مقديشو بين عامي 1992 و1996 في حماية الرئيس علي مهدي محمد) في دفن نفايات سامة خلال بناء ميناء عيل معان"، ويكشف مرسوم صادر عن الرئيس الراحل علي مهدي محمد في 19 أغسطس 1996، مدى علاقته بسكاليوني، إذ تم وصفه بمستشار للجمهورية الصومالية حينها، ونص المرسوم على السماح لسكاليوني بإنشاء مركز لإدارة وتخزين النفايات في أراضي الجمهورية الصومالية.

مخاطر صحية وبيئية

يرجح الدكتور هيرينغ أن عملية التخلص من النفايات لم تتم وفق معايير الأمن والسلامة البيئية، نظرا لكون العملية من البداية غير قانونية، قائلا: "من المحتمل أن تتدهور تلك الحاويات بمرور الوقت"، وهو ما حدث فعلا، وفق ما وثقه معد التحقيق عبر مقطع فيديو وصور لحاويات بدأ الصدأ في غزوها وظهرت على الساحل الصومالي.

و"حطمت موجات تسونامي الحاويات المليئة بالنفايات السامة ونثرت محتوياتها"، وفق مقالة الأمن النووي والصومال، إذ يقول هيرينغ "أكثر المناطق المتأثرة برواسب النفايات الخطرة، هما منطقتا هبيو وسط الصومال، ووأرشيخ شمال مقديشو، الأمر الذي تسبب بمشاكل صحية وبيئية لمجتمعات الصيد المحلية المحيطة، ووجدت بعثة تقييم تابعة للأمم المتحدة في مارس/آذار 2005 أن بعض الأهالي في الشمالي يعانون من أمراض تتفق مع آثار التسرب الإشعاعي".

وتشمل المشاكل الصحية التهابات الجهاز التنفسي الحادة، والسعال الشديد الجاف ونزيف الفم والبطن، والتحسس الجلدي الكيميائي الخطير، والموت المفاجئ بعد استنشاق المواد السامة. ويؤكد عبدالله عبدالرحمن عيرو، مدير الشؤون الإنسانية بوكالة إدارة الكوارث في ولاية بونتلاند لـ"العربي الجديد"، أن الأطباء لاحظوا انتشار مرض السرطان والتشوهات الخلقية والإجهاض في مدن يوصاصو وحافون الواقعة شمال شرق إقليم باري الصومالي. 

ووصل إجمالي عدد المصابين بالسرطان في مستشفى رجب طيب أردوغان التعليمي، ومستشفى الدكتور السميط الجامعي في مقديشو إلى 1306 حالات خلال الفترة من 2017 حتى 2020، تتوزع على مقديشو وولاية بونتلاند وإقليم أرض الصومال، وجوبا لاند، بحسب إفادة الدكتور محمد عبدالله عواله أخصائي الجراحة العامة في مستشفى الدكتور السميط، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أن المواد الإشعاعية تعتبر المسبب الأول لسرطان الدم والثدي والغدد اللمفاوية والقولون والكبد، موضحا أن سرطان الدم عند الأطفال هو الأكثر انتشارا في مدن البلاد الممتدة على طول الساحل مثل مركا، وكسمايو، وأيل، وبوصاصو، وحافون وهي من المدن التي وجدت فيها حاويات للنفايات تسربت منها مواد سامة، نتيجة ثقوب كما يقول.

الصورة
مخاطر صحية وبيئية

وتربط وكالة حماية البيئة في الولايات المتحدة الأميركية بين التعرض للنفايات الخطرة، وأمراض السرطان، والفشل الكلوي، والعيوب الخلقية، إضافة إلى تهيج العين والجلد، وصعوبة التنفس، بحسب الموقع الرسمي للوكالة، وهو ما يؤكده تقرير لمنظمة الصحة العالمية صدر في نوفمبر 2015 بعنوان "النفايات وصحة الإنسان: الأدلة والاحتياجات"، موضحا أن تسرب النفايات قد يلوث التربة وتيارات المياه وحتى الهواء من خلال انبعاثات مثل معادن ثقيلة، تتسبب في النهاية بمخاطر صحية.

ويدمر التلوث البحري الناتج عن النفايات السامة، سبل عيش الصيادين، إذ لاحظوا نفوق الأسماك على طول سواحل مدن مقديشو وبوصاصو وكسمايو، حسب ما يقول عمر عبد الله آدم، منسق وزارة الثروة السمكية والموارد البحرية بإقليم شبيلي السفلى لـ"العربي الجديد". ونفقت على سواحل ولاية بونتلاند 3 أطنان من الأسماك في شهر يناير 2020، بحسب إفادة عبد الواحد محمد جعار، مدير عام سابق في وزارة الثروة السمكية بولاية بونتلاند، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أن النفايات السامة في المياه الصومالية، أحد أسباب نفوق الأسماك وتدهور البيئة البحرية، ويتفق معه العمدة السابق لمدينة بندربيلا في ولاية بونتلاند، سعيد آدم أتينو، مؤكدا لـ"العربي الجديد" نفوق كميات كبيرة من الأسماك في مناطق "بيلا، وأيل وحافون".

من يحاسب المتورطين؟

تؤكد أمرن أحمد صالح، نائبة سابقة في المجلس المحلي لمدينة عيرجابو بإقليم سناج شمال الصومال، صعوبة التخلص من النفايات المدفونة، لعدم توفر الإمكانيات المادية، رغم إطلاقهم مناشدات للمساعدة، وتقول لـ"العربي الجديد": "تقتصر الجهود على التوعية بمخاطر الحاويات على طول الخط الساحلي المكتظ بالسكان"، مشيرة إلى ضرورة محاسبة المتورطين بإلقاء النفايات السامة، والعمل على معاقبة المسؤولين عنها.

وخالفت شركات التخلص من النفايات اتفاقية بازل (وقعت في مارس 1989) للتحكم في نقل النفايات الخطرة عبر الحدود والتخلص منها، وعلى وجه التحديد منع نقل النفايات الخطرة من البلدان المتقدمة إلى البلدان الأقل نموا، إضافة إلى اتفاقية باماكو التي تحظر استيراد أي نفايات خطرة إلى أفريقيا، والتحكم في حركتها عبر الحدود، بحسب الدكتور بشير محمد حسين.

وتفرض الفقرة (هـ) من المادة التاسعة بالقانون البحري الصومالي رقم L.5 لسنة 1989 غرامة مالية على السفن التي ترتكب أفعالا غير مشروعة في المياه الصومالية، تقدر بمليون شلن صومالي (1751.77 دولارا أميركيا)، حسب ما يقول موسى أحمد عيسى، الخبير القانوني في الجامعة الوطنية الصومالية لـ"العربي الجديد".

لكن القانون المحلي أو الدولي لا يطبق، بسبب ضعف المؤسسات الحكومية في الصومال، كما يقول أحمد يوسف أحمد، مستدركا: "توجد لجنة خاصة لإجراء دراسة شاملة وعميقة حول النفايات السامة، ووضع مجلس الوزراء سياسة وطنية لإدارة البيئة وقوانين لمكافحة التخلص من النفايات السامة في البلاد، مضيفا: "نحن حاليا بصدد تنفيذ ذلك".

ذات صلة

الصورة
جنود صوماليون خلال تدريبات في مقديشو، 26 مايو 2022 (إرجين إرتورك/الأناضول)

سياسة

تبادلت مصر وإثيوبيا رسائل تحذير عسكرية أخيراً، على خلفية الوضع في الصومال وإقليم "أرض الصومال"، مع وصول سفينة محمّلة بالأسلحة من القاهرة إلى مقديشو.
الصورة
استشهاد الأسير الفلسطيني عاصف الرفاعي (فيسبوك)

مجتمع

أعلنت هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينية ونادي الأسير الفلسطيني، صباح اليوم الخميس، استشهاد الأسير المصاب بالسرطان عاصف الرفاعي (22 عاماً).
الصورة
المخدرات مصدر تمويل رئيسي لحركة الشباب

تحقيقات

تمول حركة الشباب أنشطتها المحلية في الصومال، والإقليمية في دول الجوار، عبر تجارة المخدرات والضرائب التي تفرضها على من يعملون بها، في ظل الفوضى الأمنية
الصورة
Shukri Mohamed Abdi and Fathi Mohamed Ahmed, journalists at Bilan Media, Somalia's first all-women media team, use a mobile to record the news inside the Bilan Media studios in Mogadishu, Somalia August 20, 2023. REUTERS/Feisal Omar

منوعات

كثيراً ما يضحك الناس عندما تخبرهم فتحية محمد أحمد بأنّها تدير غرفة الأخبار الأولى والوحيدة التي تعمل بها نساء فقط في الصومال، أحد أخطر الأماكن على وجه الأرض بالنسبة إلى الصحافيين.