خصّصتُ لها غرفة صغيرة، ومع مرور السنوات، صرتُ أحاول استردادها، واسترجاع الذكريات التي تنطوي عليها. فالحقائب والأحذية ليست هي هذه "الكائنات" الصامتة التي نلقي بها في الحاويات. وقد اشتغل عليها كتّاب وفنّانون كُثر. الحذاء حظي بالكثير من اهتمام المبدعين. ثمّة فيلم قصير عن "حذاء" كتبه القاصّ الساخر الرّاحل محمد طمليه، أظنّه من أفضل ما جرى إنتاجه من أفلام، وربّما أعود إليه لاحقا.
(ملخص قصة طمليه أنّ طفلا يحصل على حذاء من "بقجة اللاجئين"، التي تقدّمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، لكنّ الحذاء كان أكبر بكثير من قدم الطفل، فيقوم الطفل بدفن الحذاء في مكان معلوم لديه، وبعد أن يخفيه في الأرض يقول: "سأعود إليه عندما أكبر!").
غرفة "الحقائب والأحذية" صارت من أهمّ غرف البيت. أعود إليها وأزورها مثلما أعود إلى المكتبة. ففيها أجد الكثير من "ذاتي"، على مدى 30 عاما وأكثر من الترحال والتشرّد، فيها أحذية وحقائب تعود إلى 38 عاما، أي منذ أوّل سفر لي إلى دمشق، حين كنت في 18 من عمري، حين حملت أوّل حقيبة إلى خارج البلاد، من عمّان إلى دمشق، في رحلة "سرّيّة" لحمل رسالة إلى "رفاق" هناك.
ولكن مهلا، هناك حقائب وأحذية أقدم، وتعود إلى السفر بين "الكرامة" وعمّان، بين بيت الجَدّة في الكرامة، حيث نعيش، وبيت الوالد في عمّان. إذ كيف يمكن نسيان أحذية الطفل، ذلك الطفل الذي كنتُه ما بين العام 1958 والعام 1968، عام معركة الكرامة الشهيرة.
في طفولتنا، نحن أبناء المخيّمات (في الأردن الرسميّ، لا يتحدثون عن "الكرامة" بوصفه مخيّما، رغم أنّ سكّانه من اللاجئين)، كانت لنا أحذية مفصّلة من الكاوتشوك، من عجلات السيّارات. وكان صانع هذه الأحذية، العمّ الحاجّ لافي، يعتبرها من أجود الصناعات الثقيلة.
وهي كانت ثقيلة فعلا، وربما كانت، من حيث الوزن، أثقل من الطفل الذي يلبسها. ولم يكن من السهل التحكّم بها، خصوصا في عزّ الصيف، حين تقترب درجات الحرارة من الخمسين، وتصبح هذه الأحذية سجونا للأقدام المتعرّقة، وتشتعل هذه الأقدام، ويغدو المشي بأقدام عارية، على أرض شديدة الحرارة، أرحم من تلك الأحذية.
أما الحقائب، حقائب الجَدة في تلك الأيام، فلم تكن سوى أكياس "خيش"، أو أكياس طحين فارغة، مرسوم عليها يدان متشابكتان، ومكتوب تحتهما بالإنكليزية: use no hooks. لم نكن نفهم العبارة طبعا، لكن في ما بعد فهمنا أنّها تعني :"ليس للبيع ولا المبادلة"، وتحتها عبارة تعني أنّ هذا الطحيين: "هدية من شعب الولايات المتّحدة الأميركية إلى اللاجئين".
وفي المناسبة، كانت هذه الأكياس، أو "الخرايط" كما تسميها عمّاتُنا وجدّتُنا، تصلح لتفصيل الملابس الداخلية الطويلة، التي كنا نرتديها في حصص الرّياضة، بلا خجل طبعا. كما كنا نلبسها أيضا لنخوض في قنوات المياه التي تروي الحقول والمَزارع الواقعة بين المخيّم ونهر الأردن (الشريعة) والبحر الميّت، وسرعان ما "تسحل" هذه السراويل، ويبقى الطفل عاريا من كل شيء، كما ولدته أمّه.
ومن القماش نفسه، كانت تصنع لنا نساء العائلة حقائب مدرسيّة. فمَن منّا كان، في ذلك الزمان والمكان، يملك ثمن حقيبة جلدية مزخرفة؟ إنّهم ندرة بالطبع.
وإلى هذه "الحقائب" القماشيّة، كانت هناك حقائب تتكوّن من شاش أبيض، هو "غدفةُ" الجدّة أو العمّة، ويتم وضع ملابسنا وحاجيّاتنا فيها، ثم ربطُها ربطا محكما، وهذه غالبا ما تحملها جدتي أو أختي على رأسها. وكثيرا ما كنّا، أختي وأنا، نتشاءم حين نشاهد الجدّة وهي تفرد "غُدفتها"، وتضع فيها أشياءنا، فتصبح "بُقجة"، أو صُرّة.. لأنّ ذلك يعني السفر إلى عمّان التي لم نكن نحبّها آنذاك.
وذات مرّة، كادت الرحلة من الكرامة إلى عمّان، في الباص القديم، تكلّفني حياتي، إذ كنت أفكر بالقفز من الحافلة قبل انطلاقتها، لكنّني تأخّرت، وحين أسرع السائق، قرّرتُ أنّني لن أذهب إلى عمان مهما كانت النتيجة، ففتحتُ الباب الخلفيّ، ومن دون أن أنظر حولي، ألقيتُ جسدي. ولا أقول: قفزتُ، لأنّني لم أكن واعيا ما أفعل، ولم أصحُ من الغيبوبة إلا بعد أيام، لأجدني مهشّما في مشفى السلط الحكوميّ. فقيل لي إنّني سقطت فوق كومة حجارة، تسبّبت لي بجروح في رأسي تطلبت خياطتها 10 غُرز، فضلا عن جراحات في الجسد، وكسور في عظام الصدر.
ولا أنسى "حقائب" التنك، خصوصا تنكات الزيت والزيتون حين تفرغ، وتصبح نوعا من الحقائب، توضع فيها مستلزمات السفر والرحيل من بيت إلى بيت. وهذه كانت "أسفل" حقيبة في حياتي، حيث أن حوافّها مؤذية للكتفين، وحملُها كان من مهمّاتي، وضمن اختصاصي وواجباتي.
هذا شيء عن حقائب الطفولة وأحذيتها، أما الحقائب والأحذية في مراحل تالية، فسوف يكون لها لقاء آخر، لاحقا!
(ملخص قصة طمليه أنّ طفلا يحصل على حذاء من "بقجة اللاجئين"، التي تقدّمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، لكنّ الحذاء كان أكبر بكثير من قدم الطفل، فيقوم الطفل بدفن الحذاء في مكان معلوم لديه، وبعد أن يخفيه في الأرض يقول: "سأعود إليه عندما أكبر!").
غرفة "الحقائب والأحذية" صارت من أهمّ غرف البيت. أعود إليها وأزورها مثلما أعود إلى المكتبة. ففيها أجد الكثير من "ذاتي"، على مدى 30 عاما وأكثر من الترحال والتشرّد، فيها أحذية وحقائب تعود إلى 38 عاما، أي منذ أوّل سفر لي إلى دمشق، حين كنت في 18 من عمري، حين حملت أوّل حقيبة إلى خارج البلاد، من عمّان إلى دمشق، في رحلة "سرّيّة" لحمل رسالة إلى "رفاق" هناك.
ولكن مهلا، هناك حقائب وأحذية أقدم، وتعود إلى السفر بين "الكرامة" وعمّان، بين بيت الجَدّة في الكرامة، حيث نعيش، وبيت الوالد في عمّان. إذ كيف يمكن نسيان أحذية الطفل، ذلك الطفل الذي كنتُه ما بين العام 1958 والعام 1968، عام معركة الكرامة الشهيرة.
في طفولتنا، نحن أبناء المخيّمات (في الأردن الرسميّ، لا يتحدثون عن "الكرامة" بوصفه مخيّما، رغم أنّ سكّانه من اللاجئين)، كانت لنا أحذية مفصّلة من الكاوتشوك، من عجلات السيّارات. وكان صانع هذه الأحذية، العمّ الحاجّ لافي، يعتبرها من أجود الصناعات الثقيلة.
وهي كانت ثقيلة فعلا، وربما كانت، من حيث الوزن، أثقل من الطفل الذي يلبسها. ولم يكن من السهل التحكّم بها، خصوصا في عزّ الصيف، حين تقترب درجات الحرارة من الخمسين، وتصبح هذه الأحذية سجونا للأقدام المتعرّقة، وتشتعل هذه الأقدام، ويغدو المشي بأقدام عارية، على أرض شديدة الحرارة، أرحم من تلك الأحذية.
أما الحقائب، حقائب الجَدة في تلك الأيام، فلم تكن سوى أكياس "خيش"، أو أكياس طحين فارغة، مرسوم عليها يدان متشابكتان، ومكتوب تحتهما بالإنكليزية: use no hooks. لم نكن نفهم العبارة طبعا، لكن في ما بعد فهمنا أنّها تعني :"ليس للبيع ولا المبادلة"، وتحتها عبارة تعني أنّ هذا الطحيين: "هدية من شعب الولايات المتّحدة الأميركية إلى اللاجئين".
وفي المناسبة، كانت هذه الأكياس، أو "الخرايط" كما تسميها عمّاتُنا وجدّتُنا، تصلح لتفصيل الملابس الداخلية الطويلة، التي كنا نرتديها في حصص الرّياضة، بلا خجل طبعا. كما كنا نلبسها أيضا لنخوض في قنوات المياه التي تروي الحقول والمَزارع الواقعة بين المخيّم ونهر الأردن (الشريعة) والبحر الميّت، وسرعان ما "تسحل" هذه السراويل، ويبقى الطفل عاريا من كل شيء، كما ولدته أمّه.
ومن القماش نفسه، كانت تصنع لنا نساء العائلة حقائب مدرسيّة. فمَن منّا كان، في ذلك الزمان والمكان، يملك ثمن حقيبة جلدية مزخرفة؟ إنّهم ندرة بالطبع.
وإلى هذه "الحقائب" القماشيّة، كانت هناك حقائب تتكوّن من شاش أبيض، هو "غدفةُ" الجدّة أو العمّة، ويتم وضع ملابسنا وحاجيّاتنا فيها، ثم ربطُها ربطا محكما، وهذه غالبا ما تحملها جدتي أو أختي على رأسها. وكثيرا ما كنّا، أختي وأنا، نتشاءم حين نشاهد الجدّة وهي تفرد "غُدفتها"، وتضع فيها أشياءنا، فتصبح "بُقجة"، أو صُرّة.. لأنّ ذلك يعني السفر إلى عمّان التي لم نكن نحبّها آنذاك.
وذات مرّة، كادت الرحلة من الكرامة إلى عمّان، في الباص القديم، تكلّفني حياتي، إذ كنت أفكر بالقفز من الحافلة قبل انطلاقتها، لكنّني تأخّرت، وحين أسرع السائق، قرّرتُ أنّني لن أذهب إلى عمان مهما كانت النتيجة، ففتحتُ الباب الخلفيّ، ومن دون أن أنظر حولي، ألقيتُ جسدي. ولا أقول: قفزتُ، لأنّني لم أكن واعيا ما أفعل، ولم أصحُ من الغيبوبة إلا بعد أيام، لأجدني مهشّما في مشفى السلط الحكوميّ. فقيل لي إنّني سقطت فوق كومة حجارة، تسبّبت لي بجروح في رأسي تطلبت خياطتها 10 غُرز، فضلا عن جراحات في الجسد، وكسور في عظام الصدر.
ولا أنسى "حقائب" التنك، خصوصا تنكات الزيت والزيتون حين تفرغ، وتصبح نوعا من الحقائب، توضع فيها مستلزمات السفر والرحيل من بيت إلى بيت. وهذه كانت "أسفل" حقيبة في حياتي، حيث أن حوافّها مؤذية للكتفين، وحملُها كان من مهمّاتي، وضمن اختصاصي وواجباتي.
هذا شيء عن حقائب الطفولة وأحذيتها، أما الحقائب والأحذية في مراحل تالية، فسوف يكون لها لقاء آخر، لاحقا!