مقارنة بما كتب ويكتب عن حرية التجارة العالمية والاعلام الجماهيري وثقافة الانترنت والهجرات بين البلدان، لم تحظَ السياحة بعد بما يناسب قوة حضورها وفعلها في حياة فئات واسعة من البشر والمجتمعات والبلدان. فالسياحة، الى جانب كونها ظاهرة اقتصادية، هي ظاهرة ثقافية ونمط عيش، وشديدة الأثر في رغبات البشر وعلاقاتهم وأذواقهم.
في رحلة استمرت 5 أيام بين الأقصر وأسوان (260 كلم) على متن فندق عائم، كنا لبنانيين اثنين بين نحو 70 سائحا من الولايات المتحدة الأميركية وأميركا اللاتينية وإسبانيا، إضافة الى حوالى 15 مصريا يعملون في خدمة نزلاء الفندق - اليخت الكبير وإدارته وقيادته وصيانته، يعاونهم اربعة مرشدين سياحيين او خمسة.
عرب وأجانب
قال العاملون المصريون والمرشدون السياحيون إن "المواطنين العرب" الذين يأتون للسياحة في مصر - وهم قليلون، أصلا، قياسا إلى أعداد السياح "الأجانب" - لا تجذبهم السياحة النيلية، الثقافية والاثرية، التي تزاوج بين متعة الاستجمام والراحة والاكتشاف والاختلاط العابر بغرباء، والاختلاء بالنفس بين غرباء، والابتعاد عن دورة الحياة اليومية العادية.
المشاهد السياحية بين الاقصر واسوان تطغى على غيرها من مشاهد الصعيد وحياته الفلاحية في البلدات والقرى، وغير الفلاحية في المدن الصغيرة، على ضفتي النيل. كأن مشاهد الحياة السياحية الناشطة والمزدهرة تواري مشاهد الحياة الفلاحية في الصعيد او تجعلها ديكورا طبيعيا قريبا وبعيدا، اليفاً وغريباً في وقت واحد، لمواكب السياح المعولمة والملونة التي تلتقي بالمصادفة المحضة لأيام على متون الفنادق العائمة وفي المعابد والمقابر الفرعونية وعلى ارصفة الموانىء وفي محطات الاستراحة والتسوق السياحي.
مسافات تقليدية
السائح العابر في واحد من الفنادق العائمة السائرة هادئة وبطيئة في مياه النيل، يمر طوال النهار بمشاهد الطبيعة والحياة الصعيدية الهادئة في الشريط الأخضر الضيق المنبسط على ضفتي النهر الجاري هادئاً أزرق المياه في مجراه العريض الذي تلامس مياهه حقولا خضراء وجزرا صغيرة معشبة وشبه عذراء، تتخللها شجرات النخيل المنتصبة عالياً مع أجمات من القصب. في هذا الخلاء الهادىء المؤنس، قليل من القرى تبدو بيوتها الطينية هشة عتيقة، وفي البعيد منها أبقار وجواميس تسرح مسترخية، سعيدة وهانئة في رعيها، بينما صبية يجلسون في ثيابهم الصعيدية التقليدية على ضفة النهر يلهون قرب نساء يغسلن الثياب في مياه الضفاف. وكلما مرّ فندق عائم يقف نزلاؤه من السياح على شرفاته في ثياب السباحة، فتلامس النسائم المنعشة المعتدلة جلود أجسامهم المبللة بماء البيسين البارد على ضهر المركب - الفندق العائم، مستمتعين بتسريح أبصارهم على هدوء المشاهد الخضراء شبه العذراء على الضفتين... يتوقف الفتية اللاهون عن لهوهم، ويتراكضون نحو الضفة صارخين وملوحين بأيديهم للسياح، فيخيّل للمرء أن كلا الطرفين يرى أن الآخر غريبا وبعيدا ومنقطعا، لكن مستمتع هانىء في عيشه، رغم المسافة الزمنية و"الحضارية" الهائلة التي تباعد بين متبادلي هذه التحيات السياحية العابرة.
على رصيف ميناء الاقصر السياحي، حيث تكثر متاجر المقتنيات السياحية والمقاهي والمطاعم، دخلنا مقهى عائما وثابتاً في مركب قرب الرصيف، علمنا انه الوحيد بين قلة من المقاهي التي تقدم البيرة. نادل المقهى - المركب الذي استقبلنا، اخبرنا ان صاحبه رجل بلجيكي يقيم في الاقصر مع زوجته البلجيكية منذ سنوات، وان منزلهما هناك على ضفة النيل الاخرى قبالة المقهى - المركب. وهما ينتقلان بين الضفتين في قارب صغير خاص يساعدهما في قيادته رجل صعيدي يعمل في حديقة منزلهما الريفي الجميل الذي شيداه كما يحلو لهما على مساحة من الارض الزراعية اشترياها مع المركب الثابت على الضفة الأخرى، ثم جعلاه مقهى يقدم بعض الوجبات السريعة للسياح الذين يمضون فيه سهرات ممتعة، يشاركهم فيها احيانا اصحاب المركب الثابت في المياه على ضفة النيل.
مساومات عائمة
فيما كان فندقنا العائم يبطىء سيره للرسو في ميناء إسنا السياحي، راحت تقترب منه قوارب صغيرة يقودها بالمجاذيف شبان ورجال سمر الوجوه أقوياء البنية أشداء، ويلبسون الزي الصعيدي التقليدي (العباءة)، وأخذوا يصيحون راغبين في بيع عباءات نسائية حملوها في قواربهم الصغيرة. فجأة تساقطت العباءات المضغوطة في أكياس صغيرة من النايلون على شرفات فندقنا العائم، فأصابت واحدة منها السائحة الاميركية الشابة المستلقية قرب البيسين على مسافة نحو 25 متراً من القوارب في الأسفل، فوقف السياح على الشرفات في الأعلى متفرجين مستطلعين، فبادرهم البائعون بالصياح بعبارات إنكليزية واسبانية، ودارت بين الطرفين مساومات لاهية، ارتدت في أثنائها سائحات عباءات لقياسها على أجسامهن. وبينما كان السائحون والسائحات في حال تترجح بين الفرجة والمشاركة في المساومة والاستنكاف واللهو، كان البائعون الواقفون على قواربهم المتأرجحة في السفل يتصايحون في ما بينهم مشرئبي الرؤوس والوجوه نحو شرفات الفندق العائم، صارخين للسياح ومستمرين في قذف مزيد من العباءات إليهم، كي يورطوهم في الشراء، فتستمر المساومات في هذا البازار العائم الصاخب الذي كسر، للمرة الاولى في رحلتنا، مسافات التهذيب والتحفظ والتباعد بين السياح أنفسهم، إذ راح البعض منهم ومنهن يتبادلون الكلام والضحك في خفة لاهية، فنشأت بينهم حال من التقارب.
كان تجار الكشة على قواربهم العائمة يعرضون عباءاتهم المتساقطة على شرفات فندقنا بسعر يبدأ بـ400 جنيه، مما حمل السياح على قذف العباءات الى البائعين في الأسفل، فتساقط بعضها في ماء النهر بعيداً من القوارب. لكن البائعين كانوا خبراء في انتشال عباءاتهم سريعاً من الماء، ليعيدوا قذفها الى السياح في الاعلى، عارضين عليهم، مجدداً، شراءها بأسعار يروحون، فيما هم يصيحون ويتصايحون متدافعين في صخب، يتهاودون شيئاً فشيئاً بأسعارها حتى30جنيهاً فقط.
عراك
فجأة دب العراك العنيف بين البائعين في القوارب الصغيرة التي راحوا يتضاربون بمجاذيفها ويتشاتمون. شرساً وضارياً كان مشهد عراكهم على قواربهم المتأرجحة على المياه في أسفل فندقنا السياحي العائم السائر متباطئاً وسط النهر للرسو في ميناء إسنا القريب. لكن العراك لم يستمر طويلاً، إذ توقف فجأة كما بدأ، كأن شيئاً لم يكن. غير أن توقفه لم يعد السياح الى سابق لهوهم ومساوماتهم مع البائعين، بل حملهم على الإنكفاء عن الشرفات، والعودة الى سابق عهدهم من إقامة مسافات التهذيب والتحفظ المباعد في ما بينهم، ليحل الصمت مفاجئاً بعد صخب على سطح فندقنا.
الدليل السياحي يوحنا قال إن هذا المشهد "الفولكلوري" الذي سماه أيضاً "فناً"، يتكرر مرات كثيرة في النهار الواحد منذ سنوات، كلما أبطأت الفنادق السياحية العائمة في سيرها للرسو في ميناء إسنا. وروى أن سائحة فرنسية في رحلة سابقة رغبت في تقديم شكوى لمحاسبة أحد بائعي القوارب الذي قذف عباءة أصابتها في وجهها، بينما كانت مستقلية في الشمس قرب البيسين.
ذكرى1997
فيما كنا نسير في ساحة معبد حدشبسوت وسط حشود السياح، فجأة قال الدليل: هنا حصلت المجزرة السياحية سنة 1997، حيث قتل نحو 70 شخصاً من جنسيات مختلفة في لحظات قليلة خاطفة. تخيلتُ مشهد الحشود منتشرة كما الآن، حين أمطرها، فجأة وعشوائياً، عشرة من المسلحين الإسلاميين بوابل من نيران بنادقهم الحربية الأوتوماتيكية، فغادر مصر في النهار نفسه وفي الأيام القليلة التالية، ملايين السياح عائدين إلى بلدانهم مع جثث القتلى.
في رحلة استمرت 5 أيام بين الأقصر وأسوان (260 كلم) على متن فندق عائم، كنا لبنانيين اثنين بين نحو 70 سائحا من الولايات المتحدة الأميركية وأميركا اللاتينية وإسبانيا، إضافة الى حوالى 15 مصريا يعملون في خدمة نزلاء الفندق - اليخت الكبير وإدارته وقيادته وصيانته، يعاونهم اربعة مرشدين سياحيين او خمسة.
عرب وأجانب
قال العاملون المصريون والمرشدون السياحيون إن "المواطنين العرب" الذين يأتون للسياحة في مصر - وهم قليلون، أصلا، قياسا إلى أعداد السياح "الأجانب" - لا تجذبهم السياحة النيلية، الثقافية والاثرية، التي تزاوج بين متعة الاستجمام والراحة والاكتشاف والاختلاط العابر بغرباء، والاختلاء بالنفس بين غرباء، والابتعاد عن دورة الحياة اليومية العادية.
المشاهد السياحية بين الاقصر واسوان تطغى على غيرها من مشاهد الصعيد وحياته الفلاحية في البلدات والقرى، وغير الفلاحية في المدن الصغيرة، على ضفتي النيل. كأن مشاهد الحياة السياحية الناشطة والمزدهرة تواري مشاهد الحياة الفلاحية في الصعيد او تجعلها ديكورا طبيعيا قريبا وبعيدا، اليفاً وغريباً في وقت واحد، لمواكب السياح المعولمة والملونة التي تلتقي بالمصادفة المحضة لأيام على متون الفنادق العائمة وفي المعابد والمقابر الفرعونية وعلى ارصفة الموانىء وفي محطات الاستراحة والتسوق السياحي.
مسافات تقليدية
السائح العابر في واحد من الفنادق العائمة السائرة هادئة وبطيئة في مياه النيل، يمر طوال النهار بمشاهد الطبيعة والحياة الصعيدية الهادئة في الشريط الأخضر الضيق المنبسط على ضفتي النهر الجاري هادئاً أزرق المياه في مجراه العريض الذي تلامس مياهه حقولا خضراء وجزرا صغيرة معشبة وشبه عذراء، تتخللها شجرات النخيل المنتصبة عالياً مع أجمات من القصب. في هذا الخلاء الهادىء المؤنس، قليل من القرى تبدو بيوتها الطينية هشة عتيقة، وفي البعيد منها أبقار وجواميس تسرح مسترخية، سعيدة وهانئة في رعيها، بينما صبية يجلسون في ثيابهم الصعيدية التقليدية على ضفة النهر يلهون قرب نساء يغسلن الثياب في مياه الضفاف. وكلما مرّ فندق عائم يقف نزلاؤه من السياح على شرفاته في ثياب السباحة، فتلامس النسائم المنعشة المعتدلة جلود أجسامهم المبللة بماء البيسين البارد على ضهر المركب - الفندق العائم، مستمتعين بتسريح أبصارهم على هدوء المشاهد الخضراء شبه العذراء على الضفتين... يتوقف الفتية اللاهون عن لهوهم، ويتراكضون نحو الضفة صارخين وملوحين بأيديهم للسياح، فيخيّل للمرء أن كلا الطرفين يرى أن الآخر غريبا وبعيدا ومنقطعا، لكن مستمتع هانىء في عيشه، رغم المسافة الزمنية و"الحضارية" الهائلة التي تباعد بين متبادلي هذه التحيات السياحية العابرة.
على رصيف ميناء الاقصر السياحي، حيث تكثر متاجر المقتنيات السياحية والمقاهي والمطاعم، دخلنا مقهى عائما وثابتاً في مركب قرب الرصيف، علمنا انه الوحيد بين قلة من المقاهي التي تقدم البيرة. نادل المقهى - المركب الذي استقبلنا، اخبرنا ان صاحبه رجل بلجيكي يقيم في الاقصر مع زوجته البلجيكية منذ سنوات، وان منزلهما هناك على ضفة النيل الاخرى قبالة المقهى - المركب. وهما ينتقلان بين الضفتين في قارب صغير خاص يساعدهما في قيادته رجل صعيدي يعمل في حديقة منزلهما الريفي الجميل الذي شيداه كما يحلو لهما على مساحة من الارض الزراعية اشترياها مع المركب الثابت على الضفة الأخرى، ثم جعلاه مقهى يقدم بعض الوجبات السريعة للسياح الذين يمضون فيه سهرات ممتعة، يشاركهم فيها احيانا اصحاب المركب الثابت في المياه على ضفة النيل.
مساومات عائمة
فيما كان فندقنا العائم يبطىء سيره للرسو في ميناء إسنا السياحي، راحت تقترب منه قوارب صغيرة يقودها بالمجاذيف شبان ورجال سمر الوجوه أقوياء البنية أشداء، ويلبسون الزي الصعيدي التقليدي (العباءة)، وأخذوا يصيحون راغبين في بيع عباءات نسائية حملوها في قواربهم الصغيرة. فجأة تساقطت العباءات المضغوطة في أكياس صغيرة من النايلون على شرفات فندقنا العائم، فأصابت واحدة منها السائحة الاميركية الشابة المستلقية قرب البيسين على مسافة نحو 25 متراً من القوارب في الأسفل، فوقف السياح على الشرفات في الأعلى متفرجين مستطلعين، فبادرهم البائعون بالصياح بعبارات إنكليزية واسبانية، ودارت بين الطرفين مساومات لاهية، ارتدت في أثنائها سائحات عباءات لقياسها على أجسامهن. وبينما كان السائحون والسائحات في حال تترجح بين الفرجة والمشاركة في المساومة والاستنكاف واللهو، كان البائعون الواقفون على قواربهم المتأرجحة في السفل يتصايحون في ما بينهم مشرئبي الرؤوس والوجوه نحو شرفات الفندق العائم، صارخين للسياح ومستمرين في قذف مزيد من العباءات إليهم، كي يورطوهم في الشراء، فتستمر المساومات في هذا البازار العائم الصاخب الذي كسر، للمرة الاولى في رحلتنا، مسافات التهذيب والتحفظ والتباعد بين السياح أنفسهم، إذ راح البعض منهم ومنهن يتبادلون الكلام والضحك في خفة لاهية، فنشأت بينهم حال من التقارب.
كان تجار الكشة على قواربهم العائمة يعرضون عباءاتهم المتساقطة على شرفات فندقنا بسعر يبدأ بـ400 جنيه، مما حمل السياح على قذف العباءات الى البائعين في الأسفل، فتساقط بعضها في ماء النهر بعيداً من القوارب. لكن البائعين كانوا خبراء في انتشال عباءاتهم سريعاً من الماء، ليعيدوا قذفها الى السياح في الاعلى، عارضين عليهم، مجدداً، شراءها بأسعار يروحون، فيما هم يصيحون ويتصايحون متدافعين في صخب، يتهاودون شيئاً فشيئاً بأسعارها حتى30جنيهاً فقط.
عراك
فجأة دب العراك العنيف بين البائعين في القوارب الصغيرة التي راحوا يتضاربون بمجاذيفها ويتشاتمون. شرساً وضارياً كان مشهد عراكهم على قواربهم المتأرجحة على المياه في أسفل فندقنا السياحي العائم السائر متباطئاً وسط النهر للرسو في ميناء إسنا القريب. لكن العراك لم يستمر طويلاً، إذ توقف فجأة كما بدأ، كأن شيئاً لم يكن. غير أن توقفه لم يعد السياح الى سابق لهوهم ومساوماتهم مع البائعين، بل حملهم على الإنكفاء عن الشرفات، والعودة الى سابق عهدهم من إقامة مسافات التهذيب والتحفظ المباعد في ما بينهم، ليحل الصمت مفاجئاً بعد صخب على سطح فندقنا.
الدليل السياحي يوحنا قال إن هذا المشهد "الفولكلوري" الذي سماه أيضاً "فناً"، يتكرر مرات كثيرة في النهار الواحد منذ سنوات، كلما أبطأت الفنادق السياحية العائمة في سيرها للرسو في ميناء إسنا. وروى أن سائحة فرنسية في رحلة سابقة رغبت في تقديم شكوى لمحاسبة أحد بائعي القوارب الذي قذف عباءة أصابتها في وجهها، بينما كانت مستقلية في الشمس قرب البيسين.
ذكرى1997
فيما كنا نسير في ساحة معبد حدشبسوت وسط حشود السياح، فجأة قال الدليل: هنا حصلت المجزرة السياحية سنة 1997، حيث قتل نحو 70 شخصاً من جنسيات مختلفة في لحظات قليلة خاطفة. تخيلتُ مشهد الحشود منتشرة كما الآن، حين أمطرها، فجأة وعشوائياً، عشرة من المسلحين الإسلاميين بوابل من نيران بنادقهم الحربية الأوتوماتيكية، فغادر مصر في النهار نفسه وفي الأيام القليلة التالية، ملايين السياح عائدين إلى بلدانهم مع جثث القتلى.