أكثر من 35 عاماً قضاها الفنّان السوري الراحل، ناجي جبر، بين السينما والمسرح والتلفزيون، صاغ خلالها حضوره في المشهد الفني السوري بعيداً عن ضجيج النجومية، قبل أن يغيب على النحو ذاته، قبل 6 سنوات.
على مدار سنوات مشواره الفني، امتلك ناجي جبر زمام قيادة تجربته بنفسه، كان معدّاً له أن يؤدي شخصية "ياسينو" في المسلسل الشهير "صح النوم"، لكنه اختار دور القبضاي "أبو عنتر"، الذي يرتبط بصداقة مع "غوار الطوشة"، ويسانده في صراعه للظفر بقلب حبيبته "فطوم"، حتى لو اضطره الأمر إلى دخول السجن.
كان الفنان نهاد قلعي، بوصفه كاتباً لمسلسل "صح النوم"، يقوم بتطوير شخصيات مسلسله بناء على تفاعل الممثلين، فيعيد بناءها الدرامي ويزيد فاعليتها في الحكاية، بما يوائم بين الشخصية وقدرات الممثل الذي يؤدّيها، وهو ما فعله مع شخصية "أبو عنتر"، التي أضفى جبر عليها شيئاً من روحه، فكانت النتيجة على النحو الذي عرفناها به: "مفتعل مشاكل" و"مشرّاني"، بزيّ دمشقي شعبي، وبذراعين مفتولتي العضلات، يكشف عريهما عن كلمة (باطل) التي تعبر عن طباع صاحبها، وتلك الصفات الشكلانية أضيفت إليها لوازم كلامية مغرقة بشعبيتها أيضاً، مثل: "عرضية، مالا فكاهة، مالا مازية".. صارت مع الأيام جزءاً لا يتجزأ من ملامح الشخصية.
منذ ولادتها، راهن ناجي جبر على شخصية "أبو عنتر"، التي فتحت له باب الذاكرة، فرسخ في أذهان المشاهدين من خلالها، حتى كادت تغيّب اسمه الحقيقي في ذاكرتهم، وظلّ الرجل مخلصاً للشخصية، يحملها معه أينما يحلّ، وفي ذلك كان مقتل نجوميته، فقد ولدت شخصية "أبو عنتر" في مسلسل "صح النوم" حيث كان "الكركتر" هو الأساس، وقد ساهمت طبيعة الحكاية بتكريسها وغوار الطوشة كثنائي فني، نشأ على هامش ثنائي دريد ونهاد، إلا أن تلك الثنائية بدت بعمر قصير، فما استطاعت أن تعمّر بعد "صح النوم"، إلا بعملين اثنين هما "ملح وسكر" و"وين الغلط"، الذي أنجزه دريد لحام مع محمد الماغوط.
حين انتقل الاثنان إلى المسرح لم يستطيعا أخذ أبو عنتر معهما، بل وعجزا عن تطوير الشخصية في أعمالهما التلفزيونية، حتى بدا حضورها أضعف ما يكون إلى جانب غوار (دريد لحام) في (وادي المسك)، إلا أن قوة حضورها كجزء من حضور غوار الطوشة كان من الصعب تجاهله، فأعاد لحام إحياءها مع إعادة إحياء شخصية "غوار الطوشة" في مسلسله "عودة غوار"، وللمفارقة كان الحفاظ على تفاصيل أبو عنتر واستثمارها درامياً في مسارب جديدة، مقابل تخلي غوار عن بعض من صفاته، لصالح مقتضيات البطولة، سبباً في تفوق وطغيان نجم ناجي جبر في المسلسل على نجم بطله دريد لحام.
خارج سرب "صح النوم" وامتداده، وجد ناجي جبر نفسه مع شخصية "أبو عنتر" وحيداً في التلفزيون، أسيراً لما قدّر لها من حكايات دفعت به إلى الصف الثاني من الأدوار، بل وإلى الصف الثالث أحياناً، حين انتقل بها إلى السينما.. فكان لا بد من إعادة البناء الدرامي للشخصية بما يتناسب وحكاية جديدة تحافظ على حرارة حضورها، وهو الأمر الذي نجح فيه الفنان ناجي جبر في المسرح، مستفيداً بالغالب من تطوّر شخصية غوار على يد الماغوط في المسرح والسينما أيضاً، فأحدث ناجي تغييراً في طبيعة "أبو عنتر"، بتسخير قوّته وتمرّده لصالح الناس، حين راح يعبر عن هموم الشارع السوري ومشاكله وآماله في مسرحياته، وينتقد الممارسات الخاطئة في المجتمع ولا سيما الفساد.
وتلك التجربة المسرحية الاجتماعية الناقدة سرعان ما نقلها جبر إلى الإذاعة، وعاد بها إلى التلفزيون من خلال مسلسله "يوميات أبو عنتر"، ولكن مقتضيات الحكاية في هذا المسلسل أجبرته على التخلي عن زي شخصيته التقليدية وعن جبروتها أيضاً، وأبقت على اسمها فقط.
المتتبع لتحولات شخصية "أبو عنتر" الأخيرة سرعان ما يخلص إلى أن ناجي جبر صنع عبرها نجوميته بيده، وقد امتلك على نحو ما حساً انتقادياً لأعماله، لكن مقتله جاء من هذه الشخصية التي أمن جانبها، فهي كما صنعت نجوميته بداية، عادت لتحاربها تالياً.
ولننظر كيف أنه في السينما بداية وتالياً في التلفزيون، كان كلما تخلى عن شخصية أبو عنتر لقي تقديراً صحيحاً لموهبته، وفي وقت لم يستطع فيه التصدي بهذه الشخصية لدور بطولة مطلقة واحد في عمل سينمائي، كان بعيداً عنها يتصدر أدوار البطولة السينمائية، كما كان الحال في أفلامه بالقطاع الخاص "أموت مرتين وأحبك"، و"باسمة بين الدموع"، إضافة إلى تقاسمه البطولة في فيلم "شيطان الجزيرة" مع الفنانين المصريين محمود عبد العزيز ويسرا.
السيناريو بدا مختلفاً في التلفزيون، إذ قلما استطاع مخرجو التلفزيون رؤية ناجي جبر خارج ملامح شخصية "أبو عنتر"، فأسروه في أدوار القبضاي في أعمال عديدة، منها "أيام شامية" و"الخوالي" لبسام الملا، ومع سيف الدين سبيعي "أولاد القيمرية"، ومع المخرج علاء الدين كوكش "أهل الراية".. إلا أن هذا الأخير كان فرصة لناجي جبر ليكشف ما لم يدركه كثير من المخرجين، فقد اقتضى تطور الأحداث في المسلسل، تحول شخصيته "نمر" إلى التصوّف والزهد بالدنيا، وهو ما كشف جوانب في مقدرات ناجي جبر التمثيلية لم نعرفها من قبل.
وترافق هذا الدور مع تقاسمه بطولة مسلسل "بيت جدي" مع الفنان بسام كوسا، حيث أدى شخصية "أبو راشد" التي بدت، أداء وحضوراً، بمستوى يليق بشخصية شاءت الأقدار له أن تكون الأخيرة في مشواره الفني، قبل أن يغيب في 30 مارس/آذار 2009. وبعيداً عن دور القبضاي، وفي استثناءات نادرة، قدم ناجي جبر شخصية ضابط الأمن في مسلسل "غزلان في غابة الذئاب" وشخصية رجل الأعمال المستهتر في مسلسل "أسير الانتقام".
غرقت الدراما السورية مؤخراً بقبضايات وزعران، لم يفلح معظمهم بالاقتراب من عفوية "أبو عنتر"، تلك التي كانت تأكيداً لموهبة تمثيلية لم يستثمر مخرجو الدراما إلا بعضها في أداء ناجي، فيما أهدرتها السينما يوم أهدرت ما أنجزته سينما القطاع الخاص في سورية ونجومها.
على مدار سنوات مشواره الفني، امتلك ناجي جبر زمام قيادة تجربته بنفسه، كان معدّاً له أن يؤدي شخصية "ياسينو" في المسلسل الشهير "صح النوم"، لكنه اختار دور القبضاي "أبو عنتر"، الذي يرتبط بصداقة مع "غوار الطوشة"، ويسانده في صراعه للظفر بقلب حبيبته "فطوم"، حتى لو اضطره الأمر إلى دخول السجن.
كان الفنان نهاد قلعي، بوصفه كاتباً لمسلسل "صح النوم"، يقوم بتطوير شخصيات مسلسله بناء على تفاعل الممثلين، فيعيد بناءها الدرامي ويزيد فاعليتها في الحكاية، بما يوائم بين الشخصية وقدرات الممثل الذي يؤدّيها، وهو ما فعله مع شخصية "أبو عنتر"، التي أضفى جبر عليها شيئاً من روحه، فكانت النتيجة على النحو الذي عرفناها به: "مفتعل مشاكل" و"مشرّاني"، بزيّ دمشقي شعبي، وبذراعين مفتولتي العضلات، يكشف عريهما عن كلمة (باطل) التي تعبر عن طباع صاحبها، وتلك الصفات الشكلانية أضيفت إليها لوازم كلامية مغرقة بشعبيتها أيضاً، مثل: "عرضية، مالا فكاهة، مالا مازية".. صارت مع الأيام جزءاً لا يتجزأ من ملامح الشخصية.
منذ ولادتها، راهن ناجي جبر على شخصية "أبو عنتر"، التي فتحت له باب الذاكرة، فرسخ في أذهان المشاهدين من خلالها، حتى كادت تغيّب اسمه الحقيقي في ذاكرتهم، وظلّ الرجل مخلصاً للشخصية، يحملها معه أينما يحلّ، وفي ذلك كان مقتل نجوميته، فقد ولدت شخصية "أبو عنتر" في مسلسل "صح النوم" حيث كان "الكركتر" هو الأساس، وقد ساهمت طبيعة الحكاية بتكريسها وغوار الطوشة كثنائي فني، نشأ على هامش ثنائي دريد ونهاد، إلا أن تلك الثنائية بدت بعمر قصير، فما استطاعت أن تعمّر بعد "صح النوم"، إلا بعملين اثنين هما "ملح وسكر" و"وين الغلط"، الذي أنجزه دريد لحام مع محمد الماغوط.
حين انتقل الاثنان إلى المسرح لم يستطيعا أخذ أبو عنتر معهما، بل وعجزا عن تطوير الشخصية في أعمالهما التلفزيونية، حتى بدا حضورها أضعف ما يكون إلى جانب غوار (دريد لحام) في (وادي المسك)، إلا أن قوة حضورها كجزء من حضور غوار الطوشة كان من الصعب تجاهله، فأعاد لحام إحياءها مع إعادة إحياء شخصية "غوار الطوشة" في مسلسله "عودة غوار"، وللمفارقة كان الحفاظ على تفاصيل أبو عنتر واستثمارها درامياً في مسارب جديدة، مقابل تخلي غوار عن بعض من صفاته، لصالح مقتضيات البطولة، سبباً في تفوق وطغيان نجم ناجي جبر في المسلسل على نجم بطله دريد لحام.
خارج سرب "صح النوم" وامتداده، وجد ناجي جبر نفسه مع شخصية "أبو عنتر" وحيداً في التلفزيون، أسيراً لما قدّر لها من حكايات دفعت به إلى الصف الثاني من الأدوار، بل وإلى الصف الثالث أحياناً، حين انتقل بها إلى السينما.. فكان لا بد من إعادة البناء الدرامي للشخصية بما يتناسب وحكاية جديدة تحافظ على حرارة حضورها، وهو الأمر الذي نجح فيه الفنان ناجي جبر في المسرح، مستفيداً بالغالب من تطوّر شخصية غوار على يد الماغوط في المسرح والسينما أيضاً، فأحدث ناجي تغييراً في طبيعة "أبو عنتر"، بتسخير قوّته وتمرّده لصالح الناس، حين راح يعبر عن هموم الشارع السوري ومشاكله وآماله في مسرحياته، وينتقد الممارسات الخاطئة في المجتمع ولا سيما الفساد.
وتلك التجربة المسرحية الاجتماعية الناقدة سرعان ما نقلها جبر إلى الإذاعة، وعاد بها إلى التلفزيون من خلال مسلسله "يوميات أبو عنتر"، ولكن مقتضيات الحكاية في هذا المسلسل أجبرته على التخلي عن زي شخصيته التقليدية وعن جبروتها أيضاً، وأبقت على اسمها فقط.
المتتبع لتحولات شخصية "أبو عنتر" الأخيرة سرعان ما يخلص إلى أن ناجي جبر صنع عبرها نجوميته بيده، وقد امتلك على نحو ما حساً انتقادياً لأعماله، لكن مقتله جاء من هذه الشخصية التي أمن جانبها، فهي كما صنعت نجوميته بداية، عادت لتحاربها تالياً.
ولننظر كيف أنه في السينما بداية وتالياً في التلفزيون، كان كلما تخلى عن شخصية أبو عنتر لقي تقديراً صحيحاً لموهبته، وفي وقت لم يستطع فيه التصدي بهذه الشخصية لدور بطولة مطلقة واحد في عمل سينمائي، كان بعيداً عنها يتصدر أدوار البطولة السينمائية، كما كان الحال في أفلامه بالقطاع الخاص "أموت مرتين وأحبك"، و"باسمة بين الدموع"، إضافة إلى تقاسمه البطولة في فيلم "شيطان الجزيرة" مع الفنانين المصريين محمود عبد العزيز ويسرا.
السيناريو بدا مختلفاً في التلفزيون، إذ قلما استطاع مخرجو التلفزيون رؤية ناجي جبر خارج ملامح شخصية "أبو عنتر"، فأسروه في أدوار القبضاي في أعمال عديدة، منها "أيام شامية" و"الخوالي" لبسام الملا، ومع سيف الدين سبيعي "أولاد القيمرية"، ومع المخرج علاء الدين كوكش "أهل الراية".. إلا أن هذا الأخير كان فرصة لناجي جبر ليكشف ما لم يدركه كثير من المخرجين، فقد اقتضى تطور الأحداث في المسلسل، تحول شخصيته "نمر" إلى التصوّف والزهد بالدنيا، وهو ما كشف جوانب في مقدرات ناجي جبر التمثيلية لم نعرفها من قبل.
وترافق هذا الدور مع تقاسمه بطولة مسلسل "بيت جدي" مع الفنان بسام كوسا، حيث أدى شخصية "أبو راشد" التي بدت، أداء وحضوراً، بمستوى يليق بشخصية شاءت الأقدار له أن تكون الأخيرة في مشواره الفني، قبل أن يغيب في 30 مارس/آذار 2009. وبعيداً عن دور القبضاي، وفي استثناءات نادرة، قدم ناجي جبر شخصية ضابط الأمن في مسلسل "غزلان في غابة الذئاب" وشخصية رجل الأعمال المستهتر في مسلسل "أسير الانتقام".
غرقت الدراما السورية مؤخراً بقبضايات وزعران، لم يفلح معظمهم بالاقتراب من عفوية "أبو عنتر"، تلك التي كانت تأكيداً لموهبة تمثيلية لم يستثمر مخرجو الدراما إلا بعضها في أداء ناجي، فيما أهدرتها السينما يوم أهدرت ما أنجزته سينما القطاع الخاص في سورية ونجومها.