كانت أبيات ابن زيدون تملأ الفضاء، تحاكي الجدران بلغة العاشق المشتاق، بلغة الجمال الذي لا ينضب، هو مساحةٌ مليئةٌ بالسحر. عالم من الأزرق والأحمر الساحر، تتخلله ألوان تنبثق مع الضوء من فتحات هندسية على شكل مثلثات أو مسدسات أو نجوم وأبراج متداخلة.
في منتصف القرن التاسع عشر أدركت إسبانيا أهمية قصر الحمراء من حيث قيمته الفنية والتراثية، واعترفت به كواحد من أهم معالمها السياحية، كما صنّفه موقع اليونسكو للتراث العالمي من النوع الثقافي عام 1984 ليصبح أهم معلم سياحي إسلامي في الغرب. بات يستقبل المهرجانات الثقافية والفنية والسياحية، وأهمها مهرجان لوركا الشعري الذي يحتفي بالشعر العربي والإسباني بالإضافة إلى مهرجانات الفنون والموسيقى والرقص.
يقع القصر في غرناطة، درة إسبانيا، على هضبة تدعى هضبة سبيكة، وقد بناه أحد ملوك الطوائف في القرن الخامس، لكنه يعتبر درة بني نصر لأن محمد بن الأحمر النصري هو من جاء إليه وأعاد ترميمه وبناءه بعد أن هوجم من ملوك بني قشتالة فهرب إليه واستوطن فيه وقرر تأسيس مملكته ودولته فيه.
بعدها جدّد بناءه وأضاف أبراجه الضخمة التي توحي للأعداء القشتاليين بالهيبة والقوة، كما يعود له الفضل في إيصال المياه للمملكة من مكان منخفض إلى الهضبة، حيث استطاع سحب مياه النهر الذي ينخفض 100 متر عن الهضبة مستخدماً للمرّة الأولى تقنية الأفنية والنواعير.
ولعلّ المياه من أهم أسباب ازدهار الحمراء لأنها غيّرت شكل الحياة فيه، حيث سقت كل العائلات الساكنة في القصر كما سقت جنود المملكة.
بعد محمد بن الأحمر تسلّم ولده محمد بن محمد النصري الحكم، فبنى الحصن الجديد في القصر، كما صمم مسجداً ضخماً هو اليوم نفسه كنيسة السانتا ماريا، وأضاف بعض الأجنحة الجديدة. تسلّم بعده الملك السلطان أبو الوليد إسماعيل الذي سرعان ما سلّم السلطة لابنه السلطان يوسف أبو الحجاج الذي قدّم الكثير لهذا القصر، فكان هو مَن بنى أجمل الأجنحة وأكثرها تنوّعاً حيث أصرّ على إنشائها بأجمل هندسة ممكنة مستعيناً بمهندسين وفنانين مهمين في عصره، إذ أنفَق الكثير من الأموال ليظهر القصر بالشكل المثالي، وليكون بذلك المؤسس الفني الحقيقي لكل هذا الجمال.
يتألف قصر الحمراء من عدة أبراج وأبواب وقاعات وأجنحة. من أهمّ الأبراج: برج الأسيرة، وبرج الأميرات، وبرج قماريش. أمّا الأبواب، فأهمها: باب الشريعة الذي يبلغ ارتفاعه خمسة عشر متراً، وقد كُتبت على قوسه بالخط الأندلسي المميّز هذه العبارة المشهورة: "أسعد اللّه به شريعة الإسلام وجعله فخراً على الأيام".
وقد كُتب تاريخ بنائه تحت العبارة وهو 749 هجرياً، أي ما يوافق 1354 ميلادياً. خلف الباب يباغتك مصلّى ضخم تتربع فيه اليوم اللوحة التي يفخر بها الإسبان، لوحة تسلّمهم الأندلس من العرب بعد حصار غرناطة الطويل، إذ يظهر في اللوحة كلٌّ من إيزابيلا وفرديناند.
كما كانت عبارة "لا غالب إلّا اللّه" العبارة المتكررة في كل أجنحة القصر وعلى معظم الزوايا وبخطوط مختلفة.
لكن أجمل وأهم ما في قصر الحمراء هو جناح الأسود، الذي يحتوي على "بهو الأسود" المشهور، وهو بهوٌ كبير تتوسّطه بركة عليها 12 أسداً. في القديم كانت المياه تخرج من فم كلّ أسد تبعاً لتبدّل ساعات الليل والنهار، وحين حاول الأوروبيون معرفة آلية عملها قاموا بتخريبها ولم يستطع أحد إصلاحها حتى اليوم.
بعد "بهو الأسود" تلاقيك القاعة الملكية وهي إبداعٌ فنيّ حقيقي يتألّف من الزخارف والتمازج اللوني، ومن الزخرفات الإسلامية التي تملأ قبّة القاعة الملكية، حيث يمتزج الأحمر مع الأخضر والذهبي والأزرق، وحين تدخل الشمس من فتحاته المدروسة هندسياً بشكل دقيق، تتشكّل لوحة من الظلال الملونة التي تذهل الناظر إليها وتسحر الموجودين.
لقد سمّي قصر الحمراء بهذا الاسم بسبب لونه الأحمر الآجري، ولعلّ نوع المادة التي تشكّل اللون منها نوع من أنواع التربة التي تعطي اللون الأحمر عند مزجها بالماء، وذلك بسبب وجود معدن فيها يعطيها هذا اللون المميّز الصامد حتى اليوم.
قصف الفرنسيون قصر الحمراء في الحروب الماضية وقد دُمّر جزء منه، إلّا أن ما بقي منه كاف لإحياء هذا الماضي كل لحظة مع كلّ زائر جديد. عمليات تدعيم القصر من الأسفل لحمايته ومنع قواعده من أيّ تآكل بدأ يصيبها دائمة ومستمرة سنوياً.
وعلى بعد ألف متر منه، تجد قصر جنة العريف المُحاط بالحدائق الخلابة الملوّنة المنظمة بطريقة مثالية بأشجارها وزهورها، كما تمتد هناك الحقول الواسعة التي كانت تزرع بالحبوب، تلك الحبوب التي كانت المصدر الأساسي لإطعام كل من سكن الهضبة.
كل ما سبق يجعل الزمن يقف بين يديّ الزائر ويعود لألف عام مضى، وكأنك كنت تعيش وترقص وتكتب الشعر على جدرانه. كل ما سبق يجعلك تعيد إنتاج نفسك وتاريخك وحضارتك كلها. وخلال مغادرتك القصر، يعود ابن زيدون يلقي أشعاره في الروح، ليكبر شوقه بالدم و"يصلب" إلى القلب.
ها نحن أمام أهم معلم إسلامي باقٍ في العالم الغربي الذي يعتمد شكل زخارفه على المثلث والذي هو انعكاس للخيمة في ذاكرة الإنسان المسلم الذي جاء من الشرق ليبني هذه الحضارة، كما أن الكلمات العربية المكتوبة بخط أندلسي والموزعة على كامل جدران وزوايا وأقواس القصر تجعله قصراً عربياً إسلامياً مميّزاً، كما أن تشابهه الكبير مع مدينة الزهراء الإسلامية يؤكد إسلاميته التي هي نتاج مرحلة إسلامية منفتحة متطورة فكرياً، تريد من الحياة الجمال لا القتال والموت، وهذا من أهم وقائع التاريخ العربي الإسلامي.
هو قصر الحمراء إذاً، تحفة في عنق الزمن تلبسه الأندلس وتباهي به أمام العالم، معلناً أن للشرق روح عميقة يحملها معه أينما ذهب، ويرسمها كأثر تتركه الأقدام على طريق الحياة.
في منتصف القرن التاسع عشر أدركت إسبانيا أهمية قصر الحمراء من حيث قيمته الفنية والتراثية، واعترفت به كواحد من أهم معالمها السياحية، كما صنّفه موقع اليونسكو للتراث العالمي من النوع الثقافي عام 1984 ليصبح أهم معلم سياحي إسلامي في الغرب. بات يستقبل المهرجانات الثقافية والفنية والسياحية، وأهمها مهرجان لوركا الشعري الذي يحتفي بالشعر العربي والإسباني بالإضافة إلى مهرجانات الفنون والموسيقى والرقص.
يقع القصر في غرناطة، درة إسبانيا، على هضبة تدعى هضبة سبيكة، وقد بناه أحد ملوك الطوائف في القرن الخامس، لكنه يعتبر درة بني نصر لأن محمد بن الأحمر النصري هو من جاء إليه وأعاد ترميمه وبناءه بعد أن هوجم من ملوك بني قشتالة فهرب إليه واستوطن فيه وقرر تأسيس مملكته ودولته فيه.
بعدها جدّد بناءه وأضاف أبراجه الضخمة التي توحي للأعداء القشتاليين بالهيبة والقوة، كما يعود له الفضل في إيصال المياه للمملكة من مكان منخفض إلى الهضبة، حيث استطاع سحب مياه النهر الذي ينخفض 100 متر عن الهضبة مستخدماً للمرّة الأولى تقنية الأفنية والنواعير.
ولعلّ المياه من أهم أسباب ازدهار الحمراء لأنها غيّرت شكل الحياة فيه، حيث سقت كل العائلات الساكنة في القصر كما سقت جنود المملكة.
بعد محمد بن الأحمر تسلّم ولده محمد بن محمد النصري الحكم، فبنى الحصن الجديد في القصر، كما صمم مسجداً ضخماً هو اليوم نفسه كنيسة السانتا ماريا، وأضاف بعض الأجنحة الجديدة. تسلّم بعده الملك السلطان أبو الوليد إسماعيل الذي سرعان ما سلّم السلطة لابنه السلطان يوسف أبو الحجاج الذي قدّم الكثير لهذا القصر، فكان هو مَن بنى أجمل الأجنحة وأكثرها تنوّعاً حيث أصرّ على إنشائها بأجمل هندسة ممكنة مستعيناً بمهندسين وفنانين مهمين في عصره، إذ أنفَق الكثير من الأموال ليظهر القصر بالشكل المثالي، وليكون بذلك المؤسس الفني الحقيقي لكل هذا الجمال.
يتألف قصر الحمراء من عدة أبراج وأبواب وقاعات وأجنحة. من أهمّ الأبراج: برج الأسيرة، وبرج الأميرات، وبرج قماريش. أمّا الأبواب، فأهمها: باب الشريعة الذي يبلغ ارتفاعه خمسة عشر متراً، وقد كُتبت على قوسه بالخط الأندلسي المميّز هذه العبارة المشهورة: "أسعد اللّه به شريعة الإسلام وجعله فخراً على الأيام".
وقد كُتب تاريخ بنائه تحت العبارة وهو 749 هجرياً، أي ما يوافق 1354 ميلادياً. خلف الباب يباغتك مصلّى ضخم تتربع فيه اليوم اللوحة التي يفخر بها الإسبان، لوحة تسلّمهم الأندلس من العرب بعد حصار غرناطة الطويل، إذ يظهر في اللوحة كلٌّ من إيزابيلا وفرديناند.
كما كانت عبارة "لا غالب إلّا اللّه" العبارة المتكررة في كل أجنحة القصر وعلى معظم الزوايا وبخطوط مختلفة.
لكن أجمل وأهم ما في قصر الحمراء هو جناح الأسود، الذي يحتوي على "بهو الأسود" المشهور، وهو بهوٌ كبير تتوسّطه بركة عليها 12 أسداً. في القديم كانت المياه تخرج من فم كلّ أسد تبعاً لتبدّل ساعات الليل والنهار، وحين حاول الأوروبيون معرفة آلية عملها قاموا بتخريبها ولم يستطع أحد إصلاحها حتى اليوم.
بعد "بهو الأسود" تلاقيك القاعة الملكية وهي إبداعٌ فنيّ حقيقي يتألّف من الزخارف والتمازج اللوني، ومن الزخرفات الإسلامية التي تملأ قبّة القاعة الملكية، حيث يمتزج الأحمر مع الأخضر والذهبي والأزرق، وحين تدخل الشمس من فتحاته المدروسة هندسياً بشكل دقيق، تتشكّل لوحة من الظلال الملونة التي تذهل الناظر إليها وتسحر الموجودين.
لقد سمّي قصر الحمراء بهذا الاسم بسبب لونه الأحمر الآجري، ولعلّ نوع المادة التي تشكّل اللون منها نوع من أنواع التربة التي تعطي اللون الأحمر عند مزجها بالماء، وذلك بسبب وجود معدن فيها يعطيها هذا اللون المميّز الصامد حتى اليوم.
قصف الفرنسيون قصر الحمراء في الحروب الماضية وقد دُمّر جزء منه، إلّا أن ما بقي منه كاف لإحياء هذا الماضي كل لحظة مع كلّ زائر جديد. عمليات تدعيم القصر من الأسفل لحمايته ومنع قواعده من أيّ تآكل بدأ يصيبها دائمة ومستمرة سنوياً.
وعلى بعد ألف متر منه، تجد قصر جنة العريف المُحاط بالحدائق الخلابة الملوّنة المنظمة بطريقة مثالية بأشجارها وزهورها، كما تمتد هناك الحقول الواسعة التي كانت تزرع بالحبوب، تلك الحبوب التي كانت المصدر الأساسي لإطعام كل من سكن الهضبة.
كل ما سبق يجعل الزمن يقف بين يديّ الزائر ويعود لألف عام مضى، وكأنك كنت تعيش وترقص وتكتب الشعر على جدرانه. كل ما سبق يجعلك تعيد إنتاج نفسك وتاريخك وحضارتك كلها. وخلال مغادرتك القصر، يعود ابن زيدون يلقي أشعاره في الروح، ليكبر شوقه بالدم و"يصلب" إلى القلب.
ها نحن أمام أهم معلم إسلامي باقٍ في العالم الغربي الذي يعتمد شكل زخارفه على المثلث والذي هو انعكاس للخيمة في ذاكرة الإنسان المسلم الذي جاء من الشرق ليبني هذه الحضارة، كما أن الكلمات العربية المكتوبة بخط أندلسي والموزعة على كامل جدران وزوايا وأقواس القصر تجعله قصراً عربياً إسلامياً مميّزاً، كما أن تشابهه الكبير مع مدينة الزهراء الإسلامية يؤكد إسلاميته التي هي نتاج مرحلة إسلامية منفتحة متطورة فكرياً، تريد من الحياة الجمال لا القتال والموت، وهذا من أهم وقائع التاريخ العربي الإسلامي.
هو قصر الحمراء إذاً، تحفة في عنق الزمن تلبسه الأندلس وتباهي به أمام العالم، معلناً أن للشرق روح عميقة يحملها معه أينما ذهب، ويرسمها كأثر تتركه الأقدام على طريق الحياة.