في دراسة تعود إلى العام 2002 في جامعة آيوا الحكومية في الولايات المتحدة الأميركية، طلب الباحثون إلى عدد من التلاميذ كتابة مقال حول موضوع معيّن، وأقنعوهم أن الذي سيقيّم مقالاتهم هو تلميذ زميل لهم.
وفي محاولة الدراسة فهم العلاقة بين التنفيس عن الغضب وبين الغضب نفسه، أثار الباحثون استياء حوالي نصف عدد التلاميذ المجرى عليهم البحث عبر تقييم مقالاتهم على أنها "واحدة من أسوأ المقالات التي قرأها المصحح".
من هؤلاء مَن اختار أن يعبّر عن غضبه عبر ضرب كيس ملاكمة، فوجد القائمون على الدراسة أن من فعل ذلك إنما تمسّك بغضبه، وغالبًا ما كان يفكّر بمستفزّه ويسعى للانتقام منه، وبالتالي لم يتحسّن مزاجه بعد التجربة.
تؤمن، في المقابل، جمعية علم النفس الأميركية، والتي تُعدّ اليوم مرجعًا عالميًا لشؤون هذا العلم ومواضيعه، بتجارب عدة قام بها عالم النفس الاجتماعي جايمس بينبيكير بمساعدة زملاء عديدين على مدى سنوات عمله، وأكدت أهمية التنفيس، لكن بطريقة أخرى.
أولى تجاربه تحت هذا العنوان كانت عام 1988، طلب فيها إلى عدد من الطلاب الجامعيين السليمين من الأمراض أن يكتب بعضهم عن صدمة عاشوها في الماضي وبعضهم الآخر عن مواضيع سطحية وعشوائية، لمدة أربعة أيام متتالية. بعد ستة أسابيع، أبدى الطلاب الذين كتبوا عن صدماتهم مزاجًا أفضل من الطلاب الذين كتبوا عن مواضيع عادية، كما كانت زياراتهم إلى الأطباء أقل، وصحّتهم أفضل.
أما في تجربة أخرى لبينبيكير ولزملائه، جرى تقسيم عدد من المهنيين الذين طردوا من وظائفهم إلى ثلاث مجموعات ومراقبتها، مجموعة كتبت عن حياتهم الخاصة والمهنية بعد التسريح وكيف يشعرون حيالها، ومجموعة كتبت عن مسيرة البحث اليومية عن عمل جديد، والثالثة لم تكتب إطلاقًا.
وبعد فترة التجربة، تبيّن أن الأفراد الذين كتبوا عن خبراتهم بعد التسريح وما آلت إليه حياتهم كانوا الأسرع في إيجاد فرصة عمل جديدة والاستقرار من جديد. يفيد كل ذلك أن التنفيس عبر الكتابة يساعد على مواجهة الصدمات واستكمال مجرى الحياة بشكل سليم.
وفي الحقيقة، التنفيس والتذمر "وجهان لعملة واحدة"، حيث يخدم الاثنان الهدف نفسه –تقريبًا- بالنسبة للإنسان، لكن كوجهي العملة، فإنهما يحملان تعابير مختلفة. يعتبر التنفيس المصطلح الملطَّف للحالة في اللغتين العربية والإنجليزية، ويفضّل استعماله عوضًا عن التذمر في التطبيقات الإيجابية أو الناجحة في تهدئة النفس.
وبطبيعة الحال، أصبح مصطلح التذمر يستعمل في جميع حالات الكلام السلبي عن تجربة قائمة أو حالة متكررة في حياة الفرد أو مجرد سرد أحداث حصلت أم ستحصل، لكن مع الإيحاء بالانزعاج عبر تنغيم الكلمات أو استعمالها في غير مواضعها. هذا وينصح العلم بالابتعاد عن التذمر بمفهومه الأخير للأسباب الآتية:
1- التذمر لا يساعدك على الإطلاق
إن زيادة التذمر تؤدي إلى تكرار التفكير المتشائم في السلوك بشكل عام، فعندما تخطر فكرة سلبية في بالك، يصبح الرابط الموجود في دماغك الذي يسمح بعبور تلك الفكرة أقوى، وبالتالي تزداد إمكانية عبور الفكرة نفسها أو أخواتها من الأفكار السلبية المترددة على الرابط عينه. ويساعد العالِم ستيف باترون في صياغة المبدأ بشكل علمي، حيث يشرح أن الخلايا العصبية توصل الأفكار عبر تحويلها إلى رسائل كيميائية تنتقل من خلية إلى أخرى عبر المشبك (Synapse) بينهما، وأن الفكرة عندما تعبر في مسار معين من الخلايا تسبب اقترابها من بعضها وتقلّص المسافة الفارغة الفاصلة بينهما (Cleft) في المشبك. وهكذا، يغيّر دماغك تركيبته الفيزيائية يوميًا بحسب الأفكار المنتقلة في داخله، ومن المفضل أن تغيّره نحو التفاؤل والتفكير الإيجابي.
2- صدّق أو لا تصدّق، التذمر معدٍ
طبيعة الإنسان كمخلوق مبرمج اجتماعيًا تحثّه على تطوير علاقاته الاجتماعية وخلق علاقات جديدة دوريًا. والعلاقات الإنسانية معقدة أكثر مما تبدو، حيث يصعب على الإنسان أن يفهم تمامًا ما يجري في عقله أو عقل غيره خلال تواصلهما مع بعضهما. لكن العلم أراد لنا أن نفهم شيئًا: إن محاولتنا في فهم الغير والتعاطف معه تؤدي بنا إلى أن نُحدث انعكاسًا لحالة الآخر ومشاعره داخل أدمغتنا، لذا فإن تذمره لنا أو أمامنا يخلق فينا الحالة نفسها، أي التشاؤم وبالتالي الرغبة في التذمر أيضًا، والعكس صحيح.
3- التذمر يضرّ بصحتك
غالبًا ما يصطحب الضغط والتوتر بالتذمر معهما، لكن ما لا نعلمه هو أن التذمر يصطحب بهما معه أيضًا، فالكيانان لا يفرّقان عن بعضهما في كلتا الحالتين، مما يسبب مضاعفات على الصحة. فالإجهاد (التوتر والضغط معًا) يؤدي إلى زيادة مستويات الكورتيزول في الجسم، ما يسبب ضعف جهاز المناعة، وزيادة احتمال أمراض القلب، مشاكل في التركيز والذاكرة، زيادة الوزن، اضطرابات النوم، وغيرها. فالتذمر من الضغط في العمل لا يؤدي إلا لإنتاج ضغط أكبر، أي نفاقم مشكلتنا ولا نحلّها.
اقرأ أيضاً: خالد الصاوي: يدافع عن ميرهان حسين... يعتذر ثمّ يبرّر