"سيرج" .. رواية كوميدية عن أوشفيتز؟
قلّة هم من لا يعرفون أو من لم يسمعوا بالكاتبة الفرنسية ياسمينة رضا، المولودة من أب إيراني روسي مهندس، ومن أم موسيقية يهودية هنغارية انتقلت إلى فرنسا هربا من الشيوعية، فنصوصها المسرحية، مثل "فنّ" و"إله المجزرة"، دارت على خشبات أكبر المسارح في أهم العواصم العالمية، منقولةً إلى نحو 35 لغة، وحازت على أهم الجوائز، ولها سيناريوهات سينمائية، وروايات أربع من بينها "بابل" التي نالت جائزة رونودو للأدب، و"سيرج" الصادرة حديثا عن دار فلاماريون الفرنسية.
سيرج، بطل الرواية الذي يخبرنا عنه أخوه جان، الراوي، خمسيني، غير معني بعلامات العمر البادية عليه، متوسّط الذكاء، لا يهتم كثيرا بمظهره أو بنظافته، متهكّم ومزعج، وهو شقيق آنّا، الأخت التي يطلق عليها لقبُ "الجندي" و"البيدق"، إذ كان الشقيقان يستخدمانها صغيرين في ألعابهما ومعاركهما. الأشقاء الثلاثة من عائلة بوبر، وهم "يهود من فيينا ينتمون إلى الطبقة الوسطى، ولهم نصف قدم في أوساط الطليعة ونصف قدم أخرى في الكنيس"، وفي ذلك إشارة إلى عدم تديّنهم، وإلى إهمال الوالدة تلقينهم تعاليم الديانة اليهودية، بعكس إرادة الأب.
يجتمع سيرج وجان وآنّا، لدى وفاة والدتهم مارتا، ثم يقرّرون، بعد دفنها، أن ينفّذوا اقتراح ابنة سيرج، بالسفر إلى معسكرات أوشفيتز بيركونو، لتكريم ذكرى جدودهم الذين قضوا على أيدي النازيين، وأيضا لشدّ اللحمة بين إخوة علاقاتهم متفكّكة ومساراتهم متباعدة تخفي أسرارا وتحوّلات وأزمات. وبعد قراءة نحو ثمانين صفحة من الحوارات والمونولوغات، وبعد أن يتعرّف القارئ بشكل كاف إلى أعضاء العائلة وأبنائهم وأقاربهم وأصدقائهم، تبدأ الرحلة التي ستصحبنا خلالها ياسمينة رضا إلى حيث لا نتوقع البتة، حيث لا دموع تذرف، ولا ذاكرة موتى تُكرّم، ولا عودة موجعة إلى مقتلة هائلة طاولت الملايين.
على العكس من ذلك، تستخدم الكاتبة أسلوبا ساخرا، لاذعا، كأنما هي تسعى إلى نفي وجود شيء اسمه الارتباط بذاكرة الآخرين، فالذاكرة هي حصرا لمن عاشوا الحدث، أما من يجيئون من بعدهم، فهم إنما يزعمون التذكّر. "تصنيم الذاكرة تزييف لها"، يقول جان، فمعسكرات الموت باتت شبيهةً بمدينة ملاهٍ يؤمّها السياح بسراويلهم المزركشة القصيرة وقبّعاتهم المضحكة ونظاراتهم الشمسية، يجولون ويثرثرون ويلتقطون الصور الذاتية هنا وهناك، من دون اكتراثٍ بما سبق أن جرى فيها منذ عقود. أجل، هنا الزهور كثيرة، لأن "اليهودي سماد جيّد"، والشمس قويةٌ في حين ينبغي للجميع أن يرتجف بردا، والجوع سهلٌ، لأن مطعم أوشفيتز يقدّم المأكولات على أنواعها.
تتسلّى ياسمينة رضا بالقارئ، تأخذه إلى حيث لا يتوقّع أو يريد، تنقله من الموضوعات المطروقة، من الأمكنة المستهلكة، لتضعه داخل معيش أسرةٍ صدف أنها يهودية، وعلاقات أخوةٍ تعاني من اضطراب وتضمين، ولا بوح يجعلها متآكلة مهزوزة. نحن هنا لنكتشف التاريخ الصغير، وليس الكبير، طفولة الإخوة، الأسر المتفكّكة التي أعيد تجميعها، الخيانات، الانفصالات، .. إلخ، ولكن طبعا أيضا معنى الذاكرة وكيفية عملها وأسباب استغلالها.
شخصياتٌ عديدةٌ أخرى تدور في فلك الشخصيات الرئيسة الثلاث نكتشفها. آنا متزوجة من رجلٍ يسخر منه الشقيقان دوما. جان، الراوي، يسعى جاهدا إلى تحقيق مصالحات عائلية تفشل في النهاية، وهو يبدو الأكثر إنسانيةً على الرغم من وضوح رؤيته المتّشحة بشيء من الاستسلام والكآبة. وسيرج الذي سيزداد تعنّتا وتنمّرا وعصبية. فشله في حياته العاطفية والمهنية سيمضي به إلى مزيد من الغضب والأنانية. ومع ذلك، ثمّة ما يجعل القارئ الشاهد على انزلاقه وتدهور حاله، يتعلّق به.
ياسمينة رضا تسخر في روايتها هذه من طبقة وسطى غربية تجمع الحداثة إلى الخواء، في كلمات طنّانة فاقدة أي معنى. أماكن الذاكرة، أو واجب الذكرى، برأيها، أحدها.