أبعد من ناي البرغوثي
رحم الله الشاعر الفلسطيني، راشد حسين (1936 – 1977). كتب في قصيدةٍ نشرها في عام 1972 "واقفٌ كلّي مذلةٌ/ في مطار القاهرة/ ليتني كنت حبيسا/ في سجون الناصرة"، وذلك بعد تجربة استنطاقٍ له ساعات، كانت قاسيةً عليه، في مطار القاهرة، وهو القومي الناصري من فلسطينيي الأرض المحتلة في 1948. ذلك الشطر الشعري هو المعادل البعيد لتغريدة المغنية وعازفة الفلوت الفلسطينية، ناي البرغوثي (26 عاما)، يوم الاثنين الماضي، لمّا منعوها، في مطار القاهرة، من الدخول إلى مصر، الحبيبة كما وصفتها محقّة، لأسبابٍ لم تعرفها، بعد ثماني ساعات انتظار، كما أفادت، وكتبت إنها صُدمت وحزنت وانتابتها مشاعر متضاربةٌ عديدة. وكتبت أيضا إنها، كفنانة فلسطينية تربّت على قيم الصمود والكرامة، ترفض التنازل عن الأمل. وقد تسبّب هذا بإلغاء حفلتين لناي في القاهرة والإسكندرية استُضيفت لإحيائهما. وهنا، لا شطط في القول إن المغنّية الشابة محظوظةٌ بعض الشيء، لأن نبأ منعها من دخول مصر ذاع وشاع، ولقي الاستنكارَ والاستهجانَ اللازميْن، فيما لا يُتاح لفلسطينيين عديدين (كم بالضبط عددهم في 2021 مثلا؟)، يصلون بعد طول مشقّة إلى مطاراتٍ مصرية، ثم لا يُؤذن لهم بالدخول، بدعاوى لا يعرفها هؤلاء المساكين، وغالبا ثمّة ذرائع أمنية غير مفهومة. وكان بالغ السوريالية أن احتجاز المخرج الفلسطيني، البريطاني الإقامة، سعيد الزاغة، 12 ساعة في "تخشيبةٍ" (بتعبيره) في مطار القاهرة، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، لم يكن كافياً لدفع "خطورة" الرجل على الأمن المصري، فرافقه على متن طائرة إعادته إلى لندن ضابط مصري (!)، وكان المخرج مدعوّا إلى مهرجان الجونة السينمائي، المهرجان الذي دُعي إليه في دورة أسبق الممثل الفلسطيني، علي سليمان، ليكون عضوا في لجنة التحكيم، غير أن السلطات المصرية في مطار القاهرة أعادته من حيث أتى، ومن دون إيضاح الأسباب. وقبل ذلك في 2014، مُنع المصوّر السينمائي الفلسطيني، إيهاب عسل، من دخول مصر في المطار، وجرى ترحيله إلى الأردن، وكان ضمن فريق تصوير مشاهد في فيلم للمخرج هاني أبو أسعد، فاستُبدلت المشاهد من مصر بأخرى في الأردن!
تتابُع هذه الوقائع وما يماثلها مما لا يُنشر عنها شيءُ لا يعني أن بيروقراطيةً مصرية سببٌ لها، ولا أنها تعود إلى خلل إداري أو فني، وإنما هي عقلية متوطّنة في الإدارة الأمنية المصرية تستسهل الاستخفاف بالفلسطيني، غالبا، ذلك أننا لا نصادف أخبارا عن منع موسيقيٍّ فرنسي أو سينمائي أميركي أو مغنٍّ سعودي، مدعو إلى مناسبةٍ فنية، في مطار القاهرة، من دخول الأراضي المصرية. ومفاجأة ناي البرغوثي بما جرى لها، وقد أعدّت فقراتٍ لحفليْها تليق بجمهور مصر كما قالت، موصولةٌ بما فوجئ به فلسطينيون مثلها، معلومون وغير معلومين. ولا تزيّد في القول هنا إن هذا الاستضعاف الذي تخصّ به السلطات المصرية الفلسطينيين (والسوريين بالمناسبة)، يُردّ إلى ثقتها بأن هؤلاء الذين تُزاوَل عليهم مثل الذي عُومل به سعيد الزاغة، لا تسأل عنهم جهةٌ رسميةٌ يُفترض أنها معنيةٌ بهم. وفي البال (والخاطر ربما؟) أن منظمة التحرير تمثل الفلسطينيين في الوطن والشتات، ولدولة فلسطين سفاراتٌ في معظم أركان الأرض، غير أن السفراء والعاملين فيها غالبا ما يروْن "مرمطة" (أظنّها مفردة فصيحة وإنْ يشيع أنها عامية؟) مواطنين فلسطينيين في هذا المطار أو ذاك، في هذه الحدود البرّية أو تلك، "حقا سياديا" للدول، فلم نقع في وقائع ناي البرغوثي وسعيد الزاغة وعلي سليمان وإيهاب عسل (وغيرهم) على تحرّك رسمي فلسطيني مع الجهات المصرية المختصّة، ولم يحدُث أن صُودف أن مسؤولا فلسطينيا عالي المستوى بحث مع السلطات المصرية قضية التعامل غير الإنساني، في بعض مظاهره، مع الفلسطينيين في معبر رفح، القادمين من قطاع غزة، ولا التعامل غير الأخلاقي (أظنه كذلك) في مطار القاهرة، مع فنانين فلسطينيين قادمين بدعواتٍ رسميةٍ إلى أنشطةٍ وفعالياتٍ مصريةٍ فنية.
القصة هنا في هذا المطرح، وليس في غيره، منذ مذلّة راشد حسين في مطار القاهرة عام 1972 إلى صدمة ناي البرغوثي في المطار نفسه في 2022.