"أحاديث الجوى"... البحث عن البلد المفقود
لماذا أحبّ المشي في وسط البلد؟... هكذا يتساءل القاصّ طارق رمضان على لسان أحد أبطاله، ولا يجد جواباً. تأتي الإجابة حين نقرأ عن تاريخ وسط القاهرة، الذي بدأ مع رغبة الخديوي إسماعيل في تحديث القاهرة. ورغم ذلك، لم يغب عنه أن القاهرة ليست مدينة عادية، وأن قدامتها أكثر تقدّمية من حداثة مدن أخرى، أمامها ألفُ عامٍ كي تحلم أن تكون القاهرة. من هنا، يدرك إسماعيل أن قاهرته المأمولة لن تكون "حقيقية" من دون تمثّل شخصية القاهرة التاريخية، فيأتي بالمهندسين الأوروبيين، ويجعل الأولوية لمن عاش في القاهرة طويلاً، ثم يضع المشروع بأكمله تحت إشراف علي مبارك، فتأتي شوارع وسط البلد وميادينه حلقة من حلقات القاهرة التاريخية، وامتدادا للماضي، يتجاوزه من دون أن يقطع معه، فيحبّها من عاش في القاهرة وأحبّها، حيناً بوعي، وأحياناً كثيرة من دون أن يفهم لماذا؟ السؤال نفسُه يعاودني حين أقرأ صلاح جاهين، ما سرّ هذا الرجل وهو، فنّيا، ليس شاعري الأول. يجيب جاهين في البرنامج الإذاعي "زيارة لمكتبة فلان"، حين يُخبر الإعلامية نادية صالح بأنه لا يعرف كم مرّةً قرأ "عجائب الآثار" للجبرتي، لكن 20 مرّة هو الحد الأدنى، المتوقّع. هكذا يتشرّب جاهين لغة الجبرتي وأيامه، وهي الحاملة شخصية القاهرة، فتأتي أشعاره، أيا كان موضوعُها، من خطط المدينة التي غابت فيزيائيا، لكن كتّابا، مثل جاهين، أعادوا نسخ روحها في كتاباتهم ومنها إلينا روحا وعقلا ووجدانا.
تضيع القاهرة منّا، نحن البشر، بفعل الزمن، والحجر بفعل شراره، فنبحث عنها رغما عنا، نزوعا غريزيا، لا يمكن إيقافه، أو منع صاحبه من البحث عن إجابة سؤال "مدينة ألف ليلة"، كما وصفها أولج فولكف، فنجد رواجاً، عفوياً، لكتاباتٍ تحفر في تواريخها، وتنقّب في أرشيفاتها، وتستدعي ماضيها، القريب، وإن بعد. وهذا الكتاب الذي أثار شجون اغترابنا عن المدينة وتغريبها عنّا هو "أحاديث الجوى"، (الرواق للنشر والتوزيع، القاهرة، 2024)، وصاحبه أحد أبرز كتّاب جيلنا المسكونين بتواريخ الأماكن وسيرها وشخوصها وحكاياتها، الصيدلاني الذي أدركته حُرفتا الأدب والتاريخ، حامد محمد حامد. فأيّ كتابٍ هو؟
ثمّة كتب أكاديمية تحاول الكشف عن الحقيقة التاريخية في لغةٍ علميةٍ جافّة، لا تسمح برفع الكلفة بين المؤرّخ وتاريخه، أو الكاتب وقارئه. وثمّة كتب أخرى تستهدف العكس تماما، فهي للمتعة، أيا كان موضوعها، للرغبة في الكتابة والقراءة معا، نسمّيها، في الأعراف الصحافية المصرية، "كتابة حلوة". أما الجمع بين جدّية الموضوع وكتابته بلغة أدبية ساحرة فهو الكتابة الأكثر ندرةً، وهي، على إمتاعها القارئ، ترهق كاتبها أيّما إرهاق، في البحث حينا، والصياغة حينا، ثم في قسوة الحذف أحيانا كثيرة. من هنا، يأتي "أحاديث الجوى" بإجاباته، في كتابٍ قد تتوّهم، ومعك الكاتب نفسُه، أنه تاريخي، فيما هو يبحث في تواريخ المدينة عما ينتزعونه، قسراً، من بقاياها فينا، هنا والآن.
لا لن أحكي لك شيئا من حكايات الكتاب، رفقا بك، و"جدعنة" مني، فالكتاب، الذي جمع مؤلفه مادّته الأصلية من بطون كتب التراث، في جهد يستحقّ التحية، ثم أعاد صياغته بلغةٍ توشك أن تكون موسيقا. هو حكاية لا يرويها سوى صاحبها، ولا حق لأحد في أن يوجّهك كيف تقرأها، وكيف تفهمها، وكيف تُسقطها، فهي، كماء زمزم، لما شرب له، ولك منها على قدر طاقتك، وإيمانك. لكنني سأخبرك، اختصاراً مخلّاً، أنك أمام كتاب يتحدّث عن القاهرة التي تراها من شرفةٍ يصدُر منها صوت أم كلثوم، لا تلك التي تشاهدها منخفض الرأس في "توك توك"، يشحنك، كبضاعة، ويصعد بك ويهبط على إيقاعاتٍ إلكترونية. ليس أدلّ على الكتاب مثل عنوانه، "أحاديث الجوى"، إذ يستدعي الكاتب إبراهيم ناجي (في صياغته الكلثومية) ليشاركه البحث عن المدينة: يا فؤادي/ لا تسل أين الهوى/ كان صرحا من خيالٍ فهوى/ اسقني واشرب على أطلاله/ وارو عني طالما الدمع روى/ كيف ذاك الحبُّ أمسى خبراً/ وحديثاً من "أحاديث الجوى".