أحلام الشعوب والواقع العسكري
بعد أكثر من خمس سنوات على إجبار الاحتجاجات الشعبية الرئيسَ السابق عمر البشير على التنحّي، لا يبدو مستقبل السودان أكثر إشراقاً من غيره من دول الربيع العربي، إنّما تأخّر تفجّر تناقضاته إلى حين. ولمّا حانت الساعة، كان الانفجار عنيفاً كما سابقيه. لا تبدو التجربة السودانية مختلفة بالكلّية، وفشلت النيات الطيبة في منع شهوة السلطة في بلد هشّ من تحطيم كلّ شيء.
اصطدمت الثورة بداية بتشبّث اللجنة الأمنية للنظام السابق بالسلطة. اللجنة الأمنية المُكوَّنة من قيادات الجيش والمخابرات ومليشيات "الدعم السريع" قرّرت في 11 إبريل/ نيسان 2019 إطاحة "رأس النظام"، بحسب تعبير البيان الذي ألقاه رئيس اللجنة. لكنّ 24 ساعة من الخلافات الداخلية بين الأعضاء، ورفض الشارع خريطة الطريق المطروحة، أدّيا إلى تغييرات سريعة في تكوين اللجنة بخروج رئيسها ونائبه ومدير المخابرات، مع قفز قائد مليشيات "الدعم السريع" إلى مقعد الرجل الثاني، في مقابل إلغاء خريطة الطريق المطروحة بحكم الجيش عاماً ثمّ إجراء انتخابات.
انخرط المجلس العسكري الجديد في مفاوضات مع القوى السياسية المُعبّرة عن الشارع، والتي كان مطلبها تسليم السلطة كاملة للمدنيين مع فترة انتقالية من أربع سنوات. ألقت المفاوضات ظلالاً كثيفة من الشكّ بشأن جدّية اللجنة الأمنية ورغبتها في تسليم السلطة. ثمّ وقعت المذبحة أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم في الثالث من يونيو/ حزيران 2019، التي راح ضحيتها مئات القتلى والمفقودين، وسجّلت عشرات حالات الاغتصاب. في مساء المذبحة، أصدر قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان بياناً تنصّل فيه من اتفاقه السابق مع القوى السياسية، وأعلن نيّته تكوين حكومة، وتنظيم انتخابات بعد عام.
ردّة فعل الشارع الرافضة والمقاومة جاءت قوية في 30 يونيو (2022) بمظاهرات ضخمة وعصيان مدني شامل. وظهر القادة العسكريون في وسائل الإعلام العالمية يتوسّلون القيادات المدنية العودةَ إلى التفاوض. رغم ذلك، لم يتعلّم الجيش شيئاً من حراك الشارع. كانت شهوة السلطة أكبر. لذلك، لم يكتف بالمنصب الشرفي في مجلس السيادة، إنّما عمل على زيادة نفوذه، متغوّلاً على الملفّات والقضايا الأكثر أهمّية في إدارة الدولة، فقامت مفاوضات السلام بين النظام الانتقالي وحركات الكفاح المُسلّح تحت إدارة قائد مليشيا الدعم السريع. تبعت ذلك قيادة العسكريين كلّ اللجان الرئيسية، مثل اللجنة الاقتصادية، ولجنة الطوارئ الصحّية لمواجهة جائحة كورونا، ولجنة إزالة تمكين النظام السابق. ثم مع نهاية فترة الرئاسة العسكرية لمجلس السيادة تحرّك العسكريون لتنفيذ انقلاب عسكري ما زالت البلاد تدفع ثمنه، فقد كان الانقلاب بداية الصراع العلني بين الحليفَين المُسلّحَين، كما قرّب الحركة الإسلامية من العودة إلى السلطة.
توقّع كثيرون أن يكون الجيش (وحليفته "الدعم السريع") قد تعلّم من تاريخ الثورات الشعبية في السودان، لكنّ عنف مواجهة الربيع العربي كان أكثر إغراءً للقادة العسكريين، فقفزوا إلى الأمام بتحويل البلاد كلّها ساحةَ حربٍ شاملة بدأت أخيراً في التحوّل حرباً أهلية تنذر بتفكّك السودان إلى مناطق نفوذ دولي وحكومات مُتعدّدة. الحرب التي يزعم طرفاها الرئيسان أنّ هدفها جلب الديمقراطية أو الحفاظ على الدولة، تعمل على تآكل الدولة وإسقاطها، كما تعزّزت الشمولية حتّى لدى المواطن، الذي تتم مقايضته بالأمن مقابل الحرّية.
لم تتغير أهداف العسكريين منذ 2019، بينما تخبّطت الأحلام الجماهيرية حتّى اصطدمت بواقع الحرب. ومع طبول الحرب الأهلية، التي يسمعها العالم كلّه إلا حملة السلاح، يبدو أنّ الحكم العسكري المُستمرّ في السودان منذ 1958 قد اقترب بالبلاد من نهايتها. وعلى حين يوزّع كثيرون الاتهامات يميناً ويساراً في محاولة لشنق مُتّهم مجهول، يتجاهلون الفيل الجاثم على الغرفة منذ الاستقلال. العامل الوحيد الثابت في إدارة الدولة السودانية، وسبب تردّيها حتّى مرحلة الاحتراب والتفكّك.
لكن من يجرؤ على لوم العسكر في بلادنا؟... لذلك، يفضّلون لوم أحلام الشعوب.