أحياء يستغيثون بأموات
صراخٌ واستغاثاتٌ يومية، بمن يهمه الأمر في مصر، (إن كان ثمّة من يهمّه أيّ شيء)، سواء على مواقع التواصل الاجتماعي، أو بعض الشاشات من داخل مصر، والتي سمحت بـ"تنفيسةٍ" لبعض المختّصين، من أجل إنقاذ مآذن القاهرة التاريخية وجبّاناتها، والتي تعود إلى عصور إسلامية مختلفة، وكلها آثار، وبعضها آياتٌ فنيةٌ نادرة، جمالا وإبداعا، ناهيك عن ارتباطها بأسماء مصرية وعربية، ساهمت في تشكّل "شخصية مصر"، كما نعرفها الآن. يكشف المشهد عن كثير، لكن الأهم: أن المجتمع في مصر ما زال حيا، رغم جرائم الاغتيال المعنوي اليومية، فقرا وقهرا، أصوات الاستغاثات من الشباب العشريني قبل الشيوخ، طلاب الجامعات قبل النخب، غير المختصين بالتاريخ أو الآثار قبل المختصّين، والمثقفين، والمراقبين.
لافتٌ أيضا، أن أحدًا، رغم الإحساس الجماعي بالظلم الشديد، والوعي المرعب، والقاتل لأصحابه همّا وغمّا، لم يحاول أن يقف، ولو بشكل رمزي، أمام إحدى الجرّافات الحكومية التي تدهس تاريخ مصر دهسا، وبلا رحمة، وذلك رغم استقرار مشهد مواجهة المصريين جرّافات الهدم أو حتى الدبابّات، سواء بفعل الدراما المصرية (مسلسل الراية البيضا، تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج محمد فاضل) أو مشاهد ثورة يناير 2011، وأشهرها صورة أيقونية لشابٍّ يواجه دبّابة من دون أن يفصح عن شخصه، مؤثرا تمثيله جيلا بأكمله عن شهرته. رغم ذلك، لم يحاول أحدٌ، والرسالة واضحة، الجميع يعلم أن الحد الأدنى من احترام حياة المواطن لم يعد موجودا، وأن أحدًا من ممثلي الدولة لن يتورّع عن دهسه ومساواته بالأرض، من دون أن يتعرّض إلى مساءلة أو حساب، وهو ما عجزت عنه جرّافات القبح في الخيال الدرامي (فضّة المعداوي نموذجا).
يكشف المشهد، من دون مواربة، عن فارق بين نقيضين، المجتمع من ناحية، والدولة، من ناحية أخرى. هنا يمكننا أن نقول "إحنا شعب وإنتوا شعب"، ولن تكون دعوة إلى حربٍ أهلية، أو بثّ الفتنة بين أبناء الشعب الواحد، بل تفرقة بديهية بين معتد ومعتدى عليه، أو كما قال عبد الرحمن الأبنودي: يا عم الظابط أنت كدّاب/ واللي بعتك كدّاب/ مش بالذلّ حشوفكم غير/ أو استرجى منكم خير/ أنتوا كلاب الحاكم/ واحنا الطير/ أنتوا التوقيف/ واحنا السير/ إنتوا لصوص القوت/ واحنا بنبني بيوت/ إحنا الصوت/ ساعة ما تحبّوا الدنيا سكوت/ إحنا شعبين شعبين شعبين…
أخيرا يكشف المشهد، بوضوح، غير مسبوق، "انعدام" معرفة حاكم مصر ورجاله بالبلد الذي يحكمونه، فارق بين البلد (المجتمع والتاريخ والثقافة والحضارة) والدولة (الأجهزة والحدود والتحالفات الإقليمية والدولية). نعم، يعرف من يحكموننا دولتهم، ولا يعرفها معارضوهم، لا عجزا عن معرفتها، ولكن عن اختراق السياج الحديدي الذي يفرضه ضباط يوليو، منذ 1952، حول كل معلومة تخصّ الدولة المصرية، أي أنه جهل، رغم أنف المصريين، فرضه نظام يخشى المعلومة على نفسه، ويعتقد في انكشافها، مهما بدت عاديةً وبديهية نهايته. في المقابل، تاريخ مصر مبسوطٌ للجميع، لا أحد يخفيه، يعرفه المصريون، وغيرُهم، بل ويعرفه علماء المصريات وأغلبهم "خواجات" ومستشرقون، يعرفونه أكثر من حكّام البلد.
وصل الأمر، هنا والآن، إلى حاجتنا اليومية لشرح بديهياتٍ عن شخصياتٍ محورية في تاريخنا مثل محمود سامي البارودي، وزير حربية مصر السابق، ورئيس وزرائها، ناهيك عن قيمته الثقافية شاعرا وأديبا، الأمير يوسف كمال، حفيد إبراهيم باشا، مؤسّس مدرسة الفنون الجميلة عام 1905 وجمعية محبي الفنون الجميلة عام 1924 وأحد مؤسّسي الأكاديمية المصرية للفنون في روما، الموسيقار محمد القصبجي، الأديب الكبير يحيى حقي، وعشرات غيرهم من بناة مصر، الذين ينتظرون الهدم، هم وما يحملهم من مبان، وما يحملونه من مبان. هنا يحقّ لنا، بدورنا، أن نسأل الرئيس عبد الفتاح السيسي، متّخذ قرارات إزالة آثارنا، بدلا من تحويلها إلى مزاراتٍ سياحية، كما يحدُث في أي مكان في العالم، هل تعرف من هؤلاء؟ وما معنى مصر من دونهم؟.. "أنت دارس اللّي إنت بتعمله ده"؟