أسئلة إلى المتنبي ومظفر النواب
يجدر بنا، نحن أبناء هذه البلاد المنكوبة، أن نقف مع أنفسنا قليلاً، ونتوجّه إلى آبائنا وأجدادنا ومعاصرينا ببعض الأسئلة التي تُحرجهم. نبدأ بأبي الطيب المتنبي، الشاعر العربي الكبير الذي حفظنا أشعاره، ورفعناها إلى مستوى الحِكم والأمثال، ونسأله: ألستَ أنت الذي تنصحنا بألا نشتري العبدَ إلا والعصا معه؟ طيب، العبيد من أيّ جنس؟ بشر؟ كيف يكون أخوك الإنسان عبداً وتسكت؟ لماذا لم تقف أنت وأبناء عصرك صفاً واحداً بجانبه، وتحرّروه من العبودية؛ ثم تكتب قصيدة فخرٍ بلسان حال المثقفين المتنوّرين الكبار الذين ساهموا بتحريره، والاعتذار له بالنيابة عن أجدادك الذين استعبدوه؟ أليس ذلك أحسن من فخركم بأنسابكم وغزواتكم التي تنتهي باستعباد رجال ونساء كانوا، قبل هجومكم عليهم، أحراراً، آمنين؟
أليس صحيحاً، ومثبتاً في كتب التاريخ قولُ الخليفة عمر بن الخطاب: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ لماذا، إذاً، استغرق هجاؤك العبيدَ عدداً لا يستهان به من قصائدك؟ من جهةٍ أخرى، ما هي الحكمة في أن يكون لون بشرة العبيد الذين هجوتَهم أسود؟ وأن يكونوا، زيادة في القهر، مخصيين؟ ألا يوجد عبيد بيض، فحول، مثلاً؟ هل تعلم، يا أبا الطيب المتنبي المحترم، أنّ أجيالاً من شعراء العربية قد تأثروا بمعاني شعرك العبقري؛ ومنهم عمر أبو ريشة الذي يقول:
لا تطيقُ السادةُ الأحرار أطواقَ الحديدْ/ إنّ عيش الذل والإرهاق أولى بالعبيدْ.
هذا عن عمر أبو ريشة، وأما خليل مردم بك فيقول في النشيد الوطني الذي نردده يومياً، منذ سبعين عاماً: "عرين العروبة بيت حرام"... سأسألك، يا سي خليل، يا من تقدّس عرين العروبة وتعتبره بيتاً حراماً: هل عرين الكرد، والشركس، والتركمان والأرمن داشر، مستباح؟
أرجو ألا يُفهم من هذا أنّني، محسوبكم، أريد التقليل من شأن العرب، أو أنّني منحاز لغيرهم، فهذا قد يُغضب شاعرنا الغاضب أصلاً، مظفر النوّاب، الذي سبّنا على أمهاتنا، قبل أن يقرّر أنّ "القدس" عروس عروبتنا. ما هذا التبسيط السوقي لقضية فلسطين والقدس؟ ولماذا تحتاج عروبتنا عروساً؟ ولم لا تكون العروس دمشق، أو مكّة، أو بغداد؟ خلاص، مظفر النوّاب قرّر أنّها القدس، فلتكن.
لسنا بصدد الدفاع عن أنظمةٍ عربيةٍ كان النوّاب يستسهل السباب عليها، فتلك الأنظمة كتفها واقف، وجسدُها لَبّيس، وبمقدور مَن يشاء أن يسبّ عليها متى يشاء، ولمَ لا يسبّ طالما أنّ الشاعر لا يقصد نظاماً بعينه؟ الأنظمة العربية الحالية، بالمناسبة، ليست هي المسؤولة عن إدخال زناة الليل إلى مخدع عروس عروبتنا، والإصغاء إلى أصوات اغتصابها. التاريخ الذي تكتبه الأنظمة التقدّمية، الخطابية، الإنشائية، الذي يستند إليه مظفر النوّاب عندما يسبّ الأنظمة، نفسه، يقول إنّ إعطاء اليهود جزءاً من فلسطين عمره 105 سنوات، أي منذ وعد بلفور 1916، وإنّ الأمور مشت باتجاه تحقيق هذا الوعد، بهدوء وانتظام، حتى صارت إسرائيل، مع الأسف، أمراً واقعاً. ولكن، ألا تعلم أنّ ما يسمى "الشعوب العربية" هبّت للوقوف في وجه المشروع الصهيوني (قبل الأنظمة)، والمتطوعون العرب دخلوا الأراضي الفلسطينية سنة 1948 للدفاع عن فلسطين، وهُزموا مثلما هزمت الأنظمة التي أرسلت جيوشها إلى هناك بقرار من جامعة الدول العربية؟ قد يقول قائل إنّ مظفر النوّاب كان يقصد النظام السوري بقصيدته تلك، مع أنّه ألقى القصيدة في دمشق، وصفّق له رؤساء الشُعب الأمنية السورية الكبيرة، وأعضاء القيادتين القومية والقُطرية، وأعضاء مجلس التصفيق والدبكة، على أساس أنّ المقصود بالسباب الأنظمة الرجعية، وهم تقدّميون.
تَخَّتْ هذه الأسطوانة، يا سيدي، وصارت تصدر صوتاً مزعجاً. فهل تسمحون لنا، نحن المقهورين، أن نضع، ولو مرة واحدة، مقياساً للتقدّمي والرجعي؟ التقدّمي هو من يقف مع المستعبَدين، والرجعي هو الذي يهجو العبيد، ويشتم الناس بلا سبب.