أشباه الشعب في مثلث الحلفاء
أصدرت حكومة النظام في دمشق قراراً يُشرعن تصنيع "أشباه الألبان والأجبان"، ويشير إلى أنّها "منتجات غذائيّة يدخل في تركيبها الأساسي الحليب ومشتقاته، وتضاف إليه، حسب الرغبة، الزيوت النباتيّة غير المهدرجة، النشاء المعدل، أملاح استحلاب، منكّهات غذائيّة مسموحة"! نظراً إلى سوء الحالة المعيشيّة، وعدم قدرة التصنيع من مواد طازجة، وعدم توفر قدرة شرائيّة في ظلّ الغلاء المتصاعد الذي يفرضه النظام وتجّاره انتقاماً من "أشباه الشعب".
لا تقلّ المفارقة، استهتاراً بقيمة الناس، عن انتشار ظاهرة "تجنيد السوريين" ضمن صفوف القوّات التابعة لإحدى الدول الثلاث: "روسيا- تركيا- إيران"، التي استلمت الملف السوري منذ ما يزيد عن خمس سنوات، وكل "التقدمات" التي تحدُث على الأرض كان يسجّل مقابلها تحوّل ميدانيّ في حياة الناس، يبعد "الحل" السياسي السوري التشاركي، إلى ما وراء المصالح الاستراتيجيّة لتلك الدول على أرض سورية.
وما إن انتهى مهرجان "الاستحقاق" أو "انتخابات الأسد"، حتى عادت الأمور إلى أسوأ مما كانت عليه، ازدادت وتيرة التجنيد الإجباري في قوّات النظام، وأصبح من السهل التأكّد أنّ تلك الدروع البشريّة التي تعيش في مناطق سيطرة النظام هي أخطر بكثير من جيش الأسد الانتحاري، وحلفائه والمليشيات المتناسلة، الطائفيّة، والمرتزقة الذين تستخدمهم القوّة اللاعبة في المأساة السوريّة. أضف إلى ذلك الملاحقات الأمنيّة الجديدة، لكلّ من لم يمارس "حقه" بالتصويت في تمثيليّة مبايعة الطاغية، مجدّداً، على سبع سنوات من التبعيّة، سبع سنوات بدأت بتكريس مفهوم "الأشباه"، والذي لا يُستبعد أن ينتج، لاحقاً، شبه بلاد وشبه كرامة، وشبه حريّة، وشبه حياة، مع وجود هذا الرصيد من الموالين الذين يحملون، بالتأكيد، أشباه عقول.
هذه المساخر الإعلاميّة المطلّة بين حينٍ وآخر من شاشات إعلام نظام بشار الأسد تريد أن تقول للعالم إنّ القوّة العسكريّة وتأجير البلاد والمساومة على وحدة الأرض، هي آخر ما يهمنا اليوم. لذلك سوف نحوّل هذا القطيع من الساكتين، هذه القنابل البشريّة، المتنقّلة، والتي تنمو بقوّة، وتنجب أطفالاً بلا مخيّلة خارج ظلّ الأسد، سوف نحوّلهم إلى أشباه شعب ومرتزقة.
فيما بدأت اللغة الروسيّة تأخذ مكانتها في التعليم، يركض الشباب في مناطق سيطرة النظام، إلى اتقانها والخوض فيها، بحثاً عن فرصة "ارتزاق" بين صفوف القوات الروسيّة في سورية
على كلا الضفتين، في مناطق سيطرة المعارضة وفصائلها العسكريّة، وفي مناطق سيطرة النظام وحليفيه روسيا وإيرن، ثمّة استخفاف وحشيّ بالناس، بهذا السوري، بهذا الإنسان الذي ربما تربطه الهويّة بالآخر، من جنوب البلاد إلى شمالها، من دون أيّة قناعة بالعادات والتقاليد واللهجات والاعتقاد الديني، تربطه كلمة "مواطن سوري" تعدّدت انتماءاته، وفجّرتها الثورة السوريّة إلى وعي متنوّع، قاسمه المشترك؛ هو حقّ العيش في البلاد بكرامة، وليس السقوط في وحل مزارع الطاغية، سواء كان من بيت الأسد أو من بيوت الفصائل العسكريّة المشتتة، التي خذلها العالم وخسرتْ شعبيّتها، فاستعانت بالحلفاء ضد الشعب. تماماً، كما يحدث في إدلب مثلاً؛ حيث صدر، أخيرا، قرار بتفريق الشباب عن الشابات في مجموعات التواصل الاجتماعي (...) أحقّاً هذا هو ما يهمّ الآن، تطبيق "الشريعة"؟! وأين حرية الحياة المدنيّة في ذلك؟ ما الطموحات التي يمكن للناس في مناطق سيطرة الأسد أن ترجوها، وهي تسمع أخباراً كهذه؟ ومثلها أخبار المعاهد الشرعيّة وإقصاء الآخرين من توجهاتٍ فكريّة مختلفة وتجارة المعابر والجهاديين.. أحقاً ذلك هو مراد الثورة السوريّة بعد عشر سنوات، وآلاف السوريين أصبحوا مرتزقة، يقاتلون في صفوف القوات الروسيّة والقوات التركيّة والقوات الإيرانيّة؟
هنا يخطر في البال سؤال عن ماهية الإنسان وقيمته في سورية، عن هويته ومعناه، عن وجوده ومقدّراته التي كثيراً ما كانت تحمل توقعاتٍ مبهرة في ميادين العمل والحياة المهنيّة، باستثناء السياسيّة والعسكريّة.
لقد شهدنا كثيراً من العقول المبدعة التي كان الأسد يمنع عنها الماء والهواء والضوء، ليبرز مواليه مهما كانت مستوياتهم "العقليّة"، وخير دليل على ذلك متابعة أحد عناوين منشورات وزارة الثقافة التابعة للنظام في دمشق، الساقطة في غنائيّات كتب من نوع "إيران النوويّة .. من النشأة إلى الأزمة فالحل" بتوقيع أحد أبواق النظام، طالب إبراهيم، والكتاب يقع في أكثر من 500 صفحة، ويأتي في سياق تكريس الانحطاط الثقافي والخضوع المطلق في شبه منحول لما يمثل ثقافة نظام الأسد.
تتعلق عيون السوريين بالقوى الكبرى، وكثيرًا ما يتبنون خطاباتها بحثاً عن أمل ما
فيما بدأت اللغة الروسيّة تأخذ مكانتها في التعليم، ويركض الشباب في مناطق سيطرة النظام، إلى اتقانها والخوض فيها، بحثاً عن فرصة "ارتزاق" بين صفوف القوات الروسيّة في سورية. ومثل تلك المقارنات يمكن النظر إليها في الشمال السوري، حيث الوجود التركي، وتقديم الخدمات الاقتصاديّة والتعليميّة، وذلك كله باللغة التركيّة أيضاً. إنه مثلث الحلفاء الذين تخدم عندهم الأغلبية الساحقة من السوريين في هذه الحرب، يسندون أضلاع طموحاتهم على ولاءاتٍ للآخر، غير السوريّ؛ لأنهم شاهدوا بعضهم بعضا في سوق البيع، بين شاشات الأمم المتحدة ومجلسها، شاهدوا قيمة حقوقهم في لوائح حقوق الإنسان، شاهدوا هذا الخذلان المواكب لموتهم التاريخيّ على يد الحلفاء.
قبل أيام، اجتمع الرئيسان، الأميركي والروسي، وكلّ السوريين، تقريباً، كانت عيونهم على أخبارهم، على الرغم من الإيمان القائل إنّ الملفات الإنسانيّة في الحدث السوري هي التي حضرت في لقائهما، إلا أنّ الترجيح الأكثر حضوراً هو، أيضاً، الحدّ من انتشار الوجود الإيراني في سورية، عسكريّاً، بدليل قصف إسرائيل مواقع لحزب الله في القنيطرة، بعد يوم واحد للقاء الرئيسين في جنيف.
تتعلق عيون السوريين بالقوى الكبرى، وكثيراً ما نراهم يتبنّون خطابات تلك القوى في السياسات الداخليّة والخارجيّة، مهما كانت تتعارض، ربما، مع تفكيرهم، لكنهم يرون فيها خلاصاً ما، عبر أملٍ بحلول تنتشلهم من مرارات الحياة في الداخل أكثر ممن يعيشون في الخارج، لكنّهم، وبكلّ أسف، سيبقون أسرى ذاك اليقين المثقوب بالوعود؛ لأنّه لا يمثل سوى أشباه البشر.