"أشجار إخوانية"
أول فيلم شاهدته في حياتي كان "الأفيون والعصا"، وشاهدته كرهاً، مع زملاء المدرسة الذين سيقوا إلى صالات السينما بالعصا، وكان من إنتاج الجزائر، ويروي قصة كفاح شعبها ضد المحتل الفرنسي صاحب "الأنوار" والأسوار. يذكر عنوان الفيلم قاعدة استعمارية لحكم البلاد المستعمرَة، وهي استخدام العصا، فإن لم تُجدِ، فالأفيون. الفيلم يقدّم الأفيون على العصا، لأنَّه سلاح ناعم يُذهب العقل، وله أنواع، فليس كل الأفيون يؤخَذ عن طريق الفم، وبعض أجناسه يُؤخذ عن طريق العين، وبعضها عن طريق الأنف والأذن.
كان في الفيلم مشهد تسنُد فيه أم جزائرية شجرة، لأنَّ المقاومة الجزائرية تستخدمها في الاستخفاء، فالمقصود من العصا القوّة، كما يفعل الإسرائيليون الذين يحرقون أشجار الزيتون في فلسطين، وهي شجرة مباركة عند المسلمين والنصارى. احتار المحلّلون في قطع أبي الدنيا أشجار المدن المصرية، وانبرت محافظة القاهرة مبيّنة سبب عمليات إزالة الأشجار في عدة مناطق، فعلّلتها بأعمال التطوير بالعاصمة والتوسعة، وزعمت أن أشجاراً "موالية" زُرعت بدلًا من الأشجار "المعارضة". (كيف تستبدلون شجرةً عمرُها مائة عام بشجرةٍ عمرها بضعة شهور؟ ما لكم كيف تحكمون؟). المخلّص يريد مصر جديدة خالصة.
ربما عوقبت الشجرة بقطع رقبتها، لأنها تجمع الغلابة في ظلّها، والتجمّع غير محمود، ويظهر من صور الأشجار التي تفترسها الآلات أنها أشجار متنوّعة، وليس شجر بلح، حتى نتهم قاطعها بالغيرة أو العار.
يقول التبرير: استعرضت محافظة الجيزة جهود تشجير الشوارع في مختلف المناطق، وكتبت في منشور لها: "الأشجار والمسطّحات الخضراء تزيّن شارع جزيرة العرب بالعجوزة". العجوزة بس، قد يزعم محافظ الجيزة أنَّ الأشجار والمسطّحات الخضراء تشرب مياهاً كثيرة، وتهدّد الأمن القومي المائي. أما الحقيقة المرّة، فهي أنَّ الأشجار تُصدّر مذبوحة على غير الشريعة إلى الجيران الأحباء فحماً، فمصر من أهم عشر دول مصدّرة للفحم فأنعم وأكرم بها، من أجل أن يتمتّع الشعب الجار اللطيف "بالويك إند". لقد أحسن الشعب الجار إلى الرئيس، فدمّر غزّة، وقضى على آلاف الإخوان في "حماس"، ويستحق الشكر والفحم الجزيل، هل جزاءُ الإحسان إلا الإحسان. وقيل إن الفحم هو للشيشة المصرية. ... لقد عُدنا إلى الأفيون.
قال صديقي المصري متفكّراً: "تكونشي الأشجار من الجماعة المحظورة واحنا مش واخدين بالنا، أو من الخلايا النائمة".
أضحى أهل مصر على حال أهل الحُطيئة: زغب الحواصل لا ماء ولا شجر. أما في سورية، فلا يكلف الرئيس همّه استخدام آلاتٍ لقطع الأشجار، فما يمرُّ موسمٌ إلا ونسمع بحرائق غابات. يقول العارفون إنها طريقة ذكية يلجأ إليها الضبّاط القاعدون من أولي الضرر لزيادة الأرض العقارية والاتّجار بها. أما في بلاد الزيتون والفستق، مثل عفرين وحلب، فقد قُطّعت للتدفئة. أصبحنا نعرف طريقتين جديدتين في الإثراء في بلاد الذهب الأبيض والأصفر والبنفسجي والوردي والأسود والفحمي: قطع الطرُق وقطع الأشجار.
الشجرة أخت الانسان، هي رئته الثالثة، الإنسان يعطيها غاز الكربون وتعطيه الأكسجين، "فيفتي فيفتي". قطع الأشجار يعني خنق الإنسان، وحرفياً التجارةَ بالهواء. ومن عجائب الهند أنَّ الهندوسي إذا مات أحرقت زوجتُه نفسها، وقد أبطل القانون قبل سبعين سنة هذه العادة التي ما تزال في بعض المناطق، وما يزال الرجل يحرق معه طنًا أو طنيْن من الخشب إن هلك! هل صِرنا هندوسا نحرق أحياءً لا أمواتاً!
تعاقب الحكومة الألمانية على قطع الشجرة بعقوباتٍ قاسية، بل تحظر قطع الأغصان، ويعمل على تقليمها حلّاقو شجر محترفون يُجرون عمليات جراحية من غير تخدير. يقول العلماء إنَّ الأشجار تبكي مثل البشر، لكننا لا نسمع أنينها ولا نرى دموعها.
أجمل قصّة قرأتها عن الشجرة، هي "أمه" ليوسف إدريس. تروي حكاية مشرّد يأوي إلى جوف واحدةٍ من أشجار "أم الشعور"، ثم تمضي به الأيام فيترقّى في المعيشة، ويشتري بيتاً، ويتزوّج، ويتفقّد أمه الشجرة، فيجدها قد يبست من الحنين إلى ابنها، فيبكي أمّه. أصل الفكرة في الحديث النبوي "أكرموا عمّتكم النخلة". الرئيس المكسيكي يريد الانتقام لأهله من فرعون مصر: سيتيه المصريون أربعين سنة في الصحراء، حاملين أثقال الديون إلى أثقالهم. أرأيت إحسانا للجيران مثل إحسان الحليوة الذي لم يجد الزمان بمثله!