أشرف مروان للجميع
ما هي الفائدة التي يمكن أن تعود على مشروع ما تسمّي نفسها "المعارضة المصرية" من احتضان الرواية الصهيونية المتكرّرة عن جاسوسية أشرف مروان، واعتبارها اليقين الذي لا يختلط به أي شك؟. ماذا سنكسب جميعًا أو بعضنا لو تبيّن أن ما يعلنه الصهيوني صحيحٌ غير حصص من العار تلحق بالكل؟. وماذا يفيد مشروع معارضة النظام الاستبدادي في مصر الاحتفال باتهامات سائحةٍ إنكليزيةٍ للمجتمع المصري كله بالفساد والرشوة والانهيار الأخلاقي، والتعاطي مع كل ما نشرته على أنه مسلّماتٍ تدمغ المجتمع كله؟
منذ عشرين عامًا أو أكثر، وحكايات أشرف مروان المنتجة إسرائيليًا فقرة ثابتة لدى دوائر الميديا الصهيونية كلما اقتربت ذكرى حرب أكتوبر 1973، مع تغييراتٍ في السيناريوهات وجهة الإخراج كل عام، لكن من دون تغييرٍ في المضمون: أشرف مروان زوج بنت جمال عبد الناصر والسكرتير الشخصي لأنور السادات عميلٌ للموساد، وهو الذي أبلغ العدوّ الصهيوني بموعد شن الهجوم المصري السوري ضده في العام 1973.
يُقابل هذه الروايات الصهيونية المتعاقبة كل عام صمتٌ رسميٌّ مصريٌّ مطبق، فيما الهدف الأساس من إطلاق هذه التسريبات المعلوماتية الموسمية تسميم ذاكرة (ووجدان) الشعوب العربية التي ترى في عبور السادس من أكتوبر/ تشرين الأول عيدًا لانتصار عربي في زمنٍ ممتدٍّ من الهزائم والانكسارات العسكرية والحضارية.
يدرك الصهيوني جيدًا الاستقطابات الحادّة في بنية المجتمع المصري، وبدرجة ما العربي، بيئة مواتية للغاية لإشعال النار في الذات العربية، وتعميق إحساسها بالانهزام وترسيخ يأسها من أية إمكانيةٍ لمجابهة الزمن الصهيوني الذي تشارك في تسييده نظم الاستبداد العربية التي تعادي شعوبها قربة للعدو الذي صار صديقًا وشريكًا وحليفًا.
وفي ظل هذه الوضعية البائسة، تجد منتجات الآلة المعلوماتية الصهيونية جمهورًا عربيًا يُقبل عليها بنهم شديد، رافضًا التشكيك في صدقيّتها، أو أية دعوةٍ إلى التنبّه والحذر من قبولها والتسليم بها، تحت وهم أنها مادّة جيدة أو أسلحة صالحة لهدم منظومة الاستبداد العسكري وإلحاق الهزيمة به، فيما تكون النتيجة الحقيقية هنا تدمير الذات العربية وإهالة التراب على كل ما هو مضيء في الذاكرة. وبهذا المنطق الكريه، تصبح معركة أكتوبر تمثيلية، والعبور لم يحدُث، والنصر لم يتحقّق، بل كان هزيمة ساحقة، والعلم لم يرتفع، وبيوت الجنود الفقراء لم تتزيّن حوائطها بالفخر بحكايات الشهداء، وبطولات العائدين بالنصر. هكذا يحتضن النابشون في قمامة التاريخ الرواية الإسرائيلية له، أو بالأحرى تتعانق الأهداف والرغبات، نكاية في"العسكر"!
يفعلها الصهيوني مع المصري والعربي والفلسطيني بالآلية ذاتها: تسميم المشاعر وتدمير الوشائج بين مكوّنات المجتمع الواحد، على غرار ما يفعل مع المجتمع الفلسطيني، بالإمعان في إظهار عرب الداخل الفلسطيني متآمرين ضد المقاومة، وجديد هذه الوشايات أخيرا كان مع ملحمة انتصار الأسرى الفلسطينيين الستة على سلطات سجن جلبوع الإسرائيلي في العام 2021، والفرار منه عبر حفر نفق وصلوا من خلاله إلى القرى العربية. وقتها صنعت الشرطة الإسرائيلية رواية شديدة الانحطاط والخبث، تقول إن سيدة عربية من الناصرة هي التي سلمت آخر أسيرين هاربين من الأبطال الستة إلى الأمن الإسرائيلي.
يحمل هذا العام جديدًا، إذ إن الإصدار الجديد من الرواية الصهيونية المسمّمة يحمل الختم الرسمي، فالمصدر هنا هو جهاز الموساد بنفسه، من خلال كتابٍ يتخذ الصفة الرسمية الحكومية، وليس فقط تسريباتٍ صحافيةً أو مذكّرات شخصيةٍ لعسكريين وسياسيين سابقين، وهو الأمر الذي لم يعد يُجدي معه الصمت الرسمي من الجانب المصري الذي كان يبرّر سكوته طوال السنوات الماضية بالترفّع عن الدخول في نزالٍ مع الإعلام الإسرائيلي، كلما طالبه أحد بالردّ على هذه السردية الصهيونية التي تهين الأمة المصرية كلها. وبالتالي، فإن استمرار هذه الحالة من الصمت لن يكون لها من معنى سوى أنه إمّا أن النظام الحالي يقرّ برواية الموساد، ولا يستطيع أن يرفع عينه أمامها.. أو أنه سعيدٌ بها في إطار حربه الضروس على كل ما هو مُشرقٍ في التاريخ الحديث، مثلما يمارس تدمير أجمل ما في القاهرة القديمة، قبل أن ينتقل إلى عاصمته الجديدة التي يتمّم بها قطيعته مع التاريخ والجغرافيا.
هل يعني ذلك أن أشرف مروان بطل قومي مصري؟. ظني أنه ليس بطلًا، كما أنه أيضًا ليس عميلًا للموساد أو خائنًا، بل كان، كما قلتُ غير مرة، أداةً من الأدوات المتفق عليها بين أطراف التصوّر الأميركي للصراع العربي الإسرائيلي بعد وفاة جمال عبد الناصر، والذي كانت حرب أكتوبر 1973 بالمنظور الساداتي جزءا منه، من دون أن يقلّل ذلك بالطبع من قيمة انتصار الجنود والعسكريين، ومن ورائهم الشعب المصري والعربي، ليكون الانتصار الذي تم نحرُه على موائد التفاوض السياسي فيما بعد. وبهذا المعنى، ليس من المستبعد أن يكون أشرف مروان مشروع "كويز" مخابراتي مبكّر سبق الكويز الاقتصادي، للتمهيد لمسار التسوية والتطبيع.