أطفال الثورة في مواكب الحنين
"من أطفال الثورة إلى شعب مصر وثوار مصر في عيد الثورة الأول: خلّوا بالكم من ثورتكم عشان مستقبلنا". .. ارتفعت هذه اللافتة في الاحتفال بالعيد الأول لثورة الخامس والعشرين من يناير، وطافت مواقع التواصل الاجتماعي حاملةً صورًا وتوقيعات صغار لم يتجاوزوا مرحلة الطفولة يستحلفون أهل الثورة ألا يخذلوها ويخذلوهم.
في يوم 25 يناير/ كانون ثان 2012 كان عام قد اكتمل من عمر الثورة، كبر معه وعي الصغار الذين كان آباؤهم يحملونهم على أكتافهم، في قلب الميادين وعلى أطرافها، ويعلّمونهم حروف هجاء الحلم بالحرية والعدل والمستقبل السعيد. غير أنه باكتمال العام، كانت الثورة التي أحيت الأمل في الكبار والصغار قد عرفت التعثر في دروب الانقسامات الإيديولوجية واستعجال قطف الثمار والانتهازية من بعض أطرافها الفاعلين، فاتّسعت الثغرة التي نشأت مع الاستفتاء على تعديل الدستور في 19 مارس/آذار 2011، والذي اكتشف الجميع أنه ليس استفتاءً على تعديل مواد، بل تمريرًا لدستورٍ كامل بمعرفة المجلس العسكري، الذي كشف عن وجهه، وانتقل من حالة ملاطفة الثورة وتملقها إلى العداء الصريح لها، وهي العملية التي عاونه في إنجازها، عن وعي أو بغفلة، أطراف أساسيون في مشروع الثورة.
هؤلاء الصغار الذين كانت أعمارهم في ذلك الوقت تدور حول سن العشر سنوات، صاروا شبابًا ورجالًا، وعلى الرغم من أن غالبية المعنيين باستغاثتهم الطفولية لإنقاذ الثورة والحفاظ عليها قد خذلوهم، ولم "يخلّوا بالهم" من الثورة، فإن الصغار الذين كبروا لم ينهزموا أو ينكسروا، ولم يفقدوا القدرة على الحلم، على ما رأوه ووعوه من مصائب وفواجع حلت بأقرانٍ لهم، ابتلعهم القبر والسجن والمهجر.
هؤلاء الأطفال، سابقًا، احتفلوا بالثورة هذه المرّة، على بعد عشر سنوات من مولدها، على نحو غير مسبوق في صدقه وإبهاره، حيث طغت مواكب الحنين والتذكّر على كل محاولات الخداع والإلهاء وخطف الأنظار إلى قضايا ومعارك أخرى، ظنّ صانعوها أنها تستطيع أن تجعل عيد الثورة يمر عاديًا، كثير من النوستالجيا وقليل جدًا من الثقة في القدرة على استنهاض الحلم.
وإذ ألقى الذين تؤرّقهم وتخنقهم نسائم ذكريات الثورة بمعركة فيلم منى زكي "أصحاب ولا أعز" على "نتفليكس" مستبقين الذكرى بيومين، فقد ألقى الله في قلوب أهل الثورة حنينًا غير عادي، يلقف أدوات أعدائها، ويفرضها الثورة بندًا أول، وموضوعًا أوحد على موائد الكلام والنقاش طوال يوم أمس، ليظهر الصغار الذين كبروا والكبار الذين نضجوا اعتزازًا بها وإصرار على استكمالها غير مسبوقين، قياسًا على طقوس التذكر في السنوات الماضية.
من شواهد النضج في استقبال عيد يناير هذا العام أن النقاشات والتعليقات والمداخلات جاءت، في المجمل، بعيدًا عن نزعة الاستسلام لغريزة التلاوم وتبادل الاتهامات بين أطرافها، ومن الذي خان ومن الذي صان، لتؤكّد أن يناير ليست ذكرى مرّت، وإنما فكرة تعبر إلى المستقبل، لتختار لها ركنًا تختبئ فيه وتنتظر جيلًا آخر يستحقها ويمتلك الجدارة للوصول بها إلى حيث أرادت.
في سباق الترند، المعيار الحديث لقياس اهتمامات الجماهير، فازت ثورة يناير باكتساح على الضجيج الذي كان طاغيًا حتى يوم أول أمس حول فيلم "أصحاب ولا أعز"، وهو الضجيج المصنوع بدقة شديدة في اختيار التوقيت والموضوع، من أولئك الذين يظنّون أنهم قادرون على التحكّم في توجيه نقاشات الجماهير واشتباكاتها. اكتسحت ثورة الحلم ضجيج الفيلم، حتى لو كانت تنزف ألمًا، وأثبتت أنها لا تزال واقعًا معاشًا، وإن كان مهزومًا الآن، وأنها وهج أمل لا ينطفئ، ومعركة مستقبل قادم.
وكما قلت مرارًا، تألقت الثورة في القلوب والعقول، كما كانت حين ولدت قبل عشر سنوات كاملة، وردًة بيضاء، جمالها في أنها كانت سلمية ونقية وصادقة وحضارية، وروعتها في أنها لم تخاصم ولم تكره .. لم تكن بذيئة أو ثقيلة الظل، بل كانت ساخرة بغير تسفل، ومبدعًة بغير ادّعاء .. لم تكن عدوانية، لكنها كانت ترد الإهانة من دون عنف، كلما اعتدى عليها الأوغاد .. كانت تغني وترقص وتضحك وتبكي وتمزح وتحزن .. وأيضًا تصلّي .. كانت انفعالاتها عفوية وطبيعية وبسيطة بغير تناقض بين كل ما سبق.