أعطاب ثقافية في الأزمة الخليجية
أما وأنّ انفراجا طيّبا، ومتقدّما، يحدُث في سبيل إنهاء أزمة مقاطعة ثلاث دول خليجية (ومصر) قطر وحصارها، فلا بأس من استدعاء وقائع عوينت في غضون أزيد من أربعين شهرا. ليس بغرض استثارة جراح أو ضغائن أو مكايدات، وإنما بدافع معالجة ما أحدثته بعض الخيارات والمسلكيات، وتجاوزه. ومن تلك الوقائع ما يتعلّق بالشأن الثقافي المحض، والذي لا تكترث به وسائط الإعلام عندما تتداول في الأزمة ومسارها، وفي المستجدّ الذي شهدته أخيرا في قمة العلا. وهذا من عادي الأمور وطبائعها، بالنظر إلى هامشية الثقافة وأسئلتها في خرائط الاحتدام السياسي والإعلامي، الخليجي، بل والعربي عموما. ومما يمكن التذكير به في موضوعنا هنا أن من أبرز ما كان مفقودا في أثناء الأزمة صوت المثقفين (المشتغلين بالأدب والفنون والفكر) في دول الحصار الأربع، أي الصوت الذي كان مفترضا أن ينأى عن الخلافات، ويحتكم إلى الجامع والجوهري، ويطالب بعدم تأثير المنازعات السياسية والخصومات الإعلامية على التواصل الثقافي مع قطر. وباستثناءاتٍ شحيحةٍ جدا، كان ما شوهد معاكسا تماما، فقد ارتضى مثقفون وشعراء وأدباء وفنانون أن يلتحقوا بخيارات الحكم في بلادهم، وأن يكونوا أدواتٍ تافهةً في افتعال مزيد من الشقاق. بالتوازي مع ممارسات مؤسساتٍ ثقافيةٍ أهليةٍ (دعك من الرسمية) شاركت في مهرجان الإسفاف السياسي والإعلامي البغيض.
كان سلوكا لم يُعرف له مثيلٌ على الصعيد الثقافي العربي إصدار رئيس اتحاد كتاب الإمارات السابق، حبيب الصايغ (رحمه الله) بيانَه بالغ الشذوذ، عشية قرارات "5 يونيو" (2017)، وحظَر فيه على المثقفين والكتّاب في بلده أي تواصلٍ على أي مستوىً مع أي مؤسسةٍ قطرية، وطالبهم بالالتزام بذلك "تحت طائلة العقوبة". وزاد من بؤس الحال أن أحدا من كتّاب الإمارات ومثقفيها لم يجهر بأي احتجاجٍ على اللغة العسكرية في الأمر الصادر في البيان المشين. وتاليا، بعد سبعة أيام من اختتام اجتماعٍ لرؤساء وفود أعضاء الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب في العين (سبتمبر/ أيلول 2017)، أصدر حبيب الصايغ، بصفته رئيس هذا الاتحاد العام في حينه، البيان الختامي، متضمّنا "إدانة تمويل النظام في قطر الإرهاب ودعمه". وباستثناء رفضٍ لذلك البيان من اتحاد كتّاب المغرب (لم يحضر اجتماع العين)، لم يُسمع أي موقفٍ ممن شاركوا في ذلك الاجتماع وتمت خديعتهم.
أما مقاطعة دور النشر المصرية والسعودية والإماراتية والبحرينية معرض الدوحة للكتاب في دوراتٍ ثلاث، التزاما منها بقرارات بلدانها، فليس مردّه فقط صعوبة المشاركة بالنظر إلى توقف الطيران والتجارة مع الدوحة، وإنما أيضا التنفيذ التام لقراراتٍ حكوميةٍ فوقية. وفي البال أن جهاتٍ إماراتيةً حاولت التأثير على اتحاد الناشرين العرب، ليتخذ قرارا يدعو فيه إلى مقاطعة عربية للمعرض، ثم خاب تدبيرها. وفيما الظن أن الثقافة هي من عوامل وحدة شعوب دول الخليج العربي، فإن استبعاد الكاتب والفنان القطري من أنشطةٍ أهليةٍ ومجتمعيةٍ وتظاهراتٍ وأنشطةٍ عديدةٍ في دول الخليج الثلاث (وفي مصر) كان مؤسفا، في وقتٍ لم تمانع مؤسساتٌ رسميةٌ ومجتمعيةٌ في قطر عن استقبال أي مثقفٍ من هذه البلدان، بل إن كتّابا مصريين تقاطروا إلى الدوحة في غير نشاط، ومنهم من أحرز فيها جوائز سخية في دورات جائزتي كتارا للرواية العربية وشاعر الرسول، بل إن لأحد هؤلاء مواقف بالغة السلبية من دولة قطر وسياساتها. وكانت لها دلالتُها المهمة غزارة المشاركات المصرية في التنافس على الجائزتين (وغيرهما)، في استنكارٍ ظاهرٍ للدعوة البائسة التي جهر بها صلاح فضل، الناقد والأستاذ الجامعي (سطا أخيرا على رئاسة مجمع اللغة العربية)، لمّا أهاب بالمؤسسات المصرية المعنية بالثقافة، وبالكتّاب والمثقفين في بلده، مقاطعة أي نشاط ثقافي في دولة قطر.
من أجل أن تُرمى تلك الوقائع (ثمّة أخرى مثيلةٌ غيرها) إلى الأرشيف، لا يحسُن نسيانها، وإنما يحسُن التذكير بشذوذها عن المنطق العام لفاعلية المثقف ودوره في مجتمعه، وخروجها عن المجرى المعلوم للثقافة العربية، للإنتهاء إلى الخلاصة الأهم، وجوب عدم تكرار أفعال شائنة مثل تلك، وضرورة معالجة عاجلةٍ للأعطاب التي أحدثتها تلك المسلكيات في الفضاء الثقافي الخليجي.. أما كيف ومتى، فأهل مكّة أدرى بشعابها.