أفكار قديمة للبنان جديد .. عن شرذمة الشعب وشراسة الطوائف وواحدية الدولة
تحتدم في لبنان، في هذه الفترة، مناقشات حامية في شأن إمكان عقد مؤتمر تأسيسي يعيد صوغ دستور حديث للبنانيين، استنادًا إلى التطورات التراجيدية الجارية اليوم. بيد أن هذه المناقشات ما زالت محصورة في نطاق محدود، وإن يكن الإفصاح عنها ليس أمرًا خافيًا، حيث تتردّد عبارات الحياد والفيدرالية بالصوت الجهير، وقريبًا بالصوت الأجهر. والسؤال المباشر الذي يقضّ مضاجع كثيرين: هل يُعاد بناء لبنان جديد على قاعدة الاعتراف الدستوري بجميع طوائفه، وبأن لبنان بلد متعدّد الطوائف؟ أم يؤسّس على قاعدة عدم الاعتراف الدستوري بالطوائف والمذاهب، بل السير بوعي ومثابرة نحو دولةٍ عصريةٍ يكون فيها للقوانين العَلمانية الشأن الأساس في إدارة الحياة السياسية، خصوصًا قوانين الأحوال الشخصية والانتخاب والأحزاب، على أن تُراعى المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، مهما بلغ عدد المسيحيين الذين يتناقصون سنة بعد سنة، حتى وصلوا اليوم إلى نحو 34% من سكان لبنان؟
ماذا يختلف "لبنان العلماني الجديد" المتخيّل هذا عن لبنان الطائفي القديم؟ الجواب، استنادًا إلى الأفكار المعروضة في هذا الميدان، أن الفارق بين لبنان القديم، ذي التجربة السيئة والعقيمة والمولّدة للحروب الأهلية، ولبنان الجديد الذي تُعرض ملامحه اليوم للنقاش والسجال، محدود جدًا، كأنما النخب اللبنانية ما برحت تعيد إنتاج دولةٍ، لا من رحم لبنان البالي، بل دولةٍ على غرار لبنان البالي ودولته العتيقة المندثرة مع تعديلاتٍ غير جذرية تلائم الطوائف المتقاتلة. أي أن هذه النخب ما فتئتْ تدور في الدائرة نفسها، وعاجزة عن الخروج منها. والمؤكّد أن لبنان سيبقى، والحال هذه، في دوامةٍ لا تنتهي، ما دام الثدي الذي كان يرضع منه قد جفّ، وما دام الضرع الذي كان يرتوي منه قد انقطع. والمقصود بالضرع والثدي هنا هو الارتباط التاريخي الحيوي بنطاق لبنان القومي، غير أن بعض اللبنانيين يفقدون الوعي فورًا حين نتكلم على فكرة النطاق القومي، ويرون في ذلك إشارة إلى سورية. نعم؛ سورية هي مدخل النطاق القومي وبوابته الأصلية. والمقصود سورية الباقية، أي المجتمع والترابط البشري والجغرافي والارتباط المصلحي والاقتصادي وطرق المواصلات والمصالح المشتركة. أما سورية الحكم والحكومات والنظم والسياسات والمخابرات فهي المتغيرة، وسواها فهو الثابت. ومع ذلك، فإن كثيرين يمتعضون حين نشدّد على ارتباط لبنان بنطاقه القومي كشأن طبيعي، لأن مَن يديم النظر في خريطة المنطقة يدرك أن لبنان قطعةٌ من هذا النطاق، ولا يستطيع العيش والاستمرار بالانفصال عنه، وهو ما يجري العمل عليه اليوم في مقولات الحياد والفيدرالية. وفي الوقت ذاته، لا يتورّع بعض من هؤلاء "الممتعضين" علانية عن السعي إلى ربط لبنان بإيران مثلًا، أو بالولايات المتحدة الأميركية، أو بتركيا، وحتى بإسرائيل؛ والفارق كبير.
المؤتمر التأسيسي الذي يدور الكلام عليه اليوم، يعني، في المبنى والمعنى، إعادة توزيع الثروة والسلطة على الطوائف اللبنانية، بحسب أوزانها النوعية الناشئة، بحيث يقتطع الشيعة المدججون بالسلاح، والموسومون بالتفلت وعدم الانصياع لقوانين الدولة ومتطلبات العيش في وطن مع بقية الناس، حصة إضافية، وهو ما يجعل الطوائف الأخرى تستنفر بقوة، وتطلب الحماية من الخارج في مواجهة السلاح في الداخل، لأن زيادة حصة الشيعة تعني، بدهيًا، نقصان حُصص الطوائف الأخرى.
يختلفون على أي أمر
لبنان بلد متعدّد الأديان مثل سورية والعراق وفلسطين، أي أن تلك المجتمعات ليست وحيدة الدين، مثل السعودية أو الجزائر على سبيل المثال، بل تضم مؤمنين يتبعون ديانات عدة غير الديانات الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام. ففي العراق هناك الصابئة والإيزيدية والصارلية والشَبَك والكاكائية، وفي سورية الأحمدية والبهائية والإيزيدية .. وهكذا. أما في لبنان فالمشكلة تكمن، بالدرجة الأولى، لا في تعدّد أديانه، وهو شأن طبيعي، بل في انقسامه على أساسٍ طائفي حيث بلغ عدد الطوائف فيه 19 طائفة، بعد إضافة العلويين بصورة رسمية إلى طوائفه القديمة، ومع بقاء البهائيين بلا اعتراف رسمي بهم. إذاً، إن القول بالتعدّدية الدينية في لبنان لا يضيف شيئًا إلى وصف الحال. لكن المسألة أكثر تعقيدًا من الوصف الخارجي؛ المشكلة في عسر قبول أتباع تلك الديانات العيش معًا في دولة واحدة، وفي مجتمع واحد، وتحت قوانين واحدة، وفي ظل مساواة كاملة.
ما برح اللبنانيون يختلفون على كل شيء: سلاح حزب الله، وشكل الدولة، وحصص الطوائف فيها
برهنت التجربة اللبنانية المديدة عن أن هذا الطموح غير متوفر لدى الشعب اللبناني. وخلال مائة سنة منذ تأسيس جمهورية لبنان في سنة 1920 لم يتفق اللبنانيون على أي أمر ألبتة؛ فقد اختلفوا على استقلال لبنان، فرفض بعضهم هذا الكيان الجديد وطالب بالانضمام إلى سورية، وسعى بعضهم الآخر، بكل قوته، إلى فصل لبنان عن سورية، ونجح في ذلك. واختلفوا على الموقف من جمال عبد الناصر وسياسته وفكرة العروبة، فانفجرت حوادث 1958 المسلحة. ثم اختلفوا على العمل الفدائي الفلسطيني، فاندلعت حوادث عام 1969 التي كانت مقدّمة للحرب الأهلية المدمّرة في 1975 والتي استمرت حرائقها حتى 1990. وما برح اللبنانيون، حتى هذه اللحظة، يختلفون على كل شيء: سلاح حزب الله، وشكل الدولة، وحصص الطوائف فيها، وهي الكلمة المرادفة للسلطة والثروة المخصصتين لكل طائفة. وكلما اختلّ الميزان الديموغرافي اندلعت الصراعات في شأن إعادة توزيع الحصص، وهو ما كان من أمر الصراع الدامي في سنة 1860 في ما سُمّي بعد ذلك "متصرفية جبل لبنان"، إذ إن تزايد عدد الفلاحين الموارنة كان السبب الرئيس في الحرب التي نشبت بين الدروز والموارنة آنذاك.
الثنائيات المهلكة
نشأ الكيان السياسي اللبناني المستقل في سنة 1943 على أيدي الاستعمار الفرنسي، وبُنيَ على ثنائية مارونية – سنية، بغلبة مارونية ساحقة تعكس اتفاقًا فرنسيًا – انكليزياً في الوقت نفسه، فقد أحرز الموارنة، جرّاء تلك التسوية، على جميع مواقع اتخاذ القرار في الدولة الجديدة: رئاسة الجمهورية (القرار السياسي)، قيادة الجيش (القرار العسكري)، مخابرات الجيش والأمن العام (القرار الأمني)، حاكمية المصرف المركزي (القرار المالي)، رئاسة مجلس القضاء الأعلى (القرار القضائي)، علاوة على مواقع سياسية وإدارية رفيعة تُركت للمسيحيين الآخرين، مثل قيادة قوى الأمن الداخلي ووزارة المال وغيرها. وكان رئيس مجلس الوزراء السُني مجرّد "باشكاتب" لدى رئيس الجمهورية وفريق عمله، بحسب تعابير رؤوساء الحكومات الذين تعاقبوا على الحكم منذ عهد سامي الصلح حتى اتفاق الطائف. وقد احتاج تعديل تلك الحال 47 سنة تخللتها حرب أهلية استمرت 15 سنة. وكانت المارونية السياسية (المؤلفة من جميع الطوائف الأخرى) قد فجّرت تلك الحرب، لتعديل موازين القوى لمصلحتها جرّاء تخوّفها من صعود اليسار اللبناني، ممثلًا آنذاك بالحركة الوطنية اللبنانية التي قادها كمال جنبلاط، لكنها خرجت من تلك الحرب مهمشّة وخاسرة، مع أن اليسار اللبناني والحركة الوطنية خرجا خاسريْن.
بعد صعود الشيعة في سُلّم الكيان اللبناني، وبعد انحسار نفوذ المارونية السياسية، يحتاج الاعتراف الدستوري بالحصة الجديدة للشيعة، وهو ما ترفضه بقية الطوائف
واليوم، بعد صعود الشيعة في سُلّم الكيان اللبناني، وبعد انحسار نفوذ المارونية السياسية، يحتاج الاعتراف الدستوري بالحصة الجديدة للشيعة، كما يبدو لي، حربًا جديدة، لأن تلك الحصة ستُنتزع من حصص الطوائف الأخرى، ويحتاج أيضًا مؤتمرًا تأسيسيًا لترسيخ شرعية حصة الشيعة في الكيان اللبناني، وهو ما ترفضه جميع الطوائف الأخرى. والطوائف المسلحة في لبنان هي جبلية في الأساس (الموارنة والدروز والشيعة أخيرا). أما الطوائف المدينية (السُنّة والأرثوذكس والكاثوليك) فلم تؤسّس مليشيات، ولم تنخرط في الحرب الأهلية مباشرة، لأن مصالحها التجارية كانت تقتضي الوقوف إلى جانب الدار، لكنها دعمت، بقدر أو بآخر، هذا الطرف أو ذاك، ودائمًا بحسب مقتضيات المصالح، وما تفرضه علاقاتها بهذه الطائفة أو تلك الدولة. والحرب الأهلية دائرة الآن في لبنان بجلاء ما بعده جلاء، لكن من دون استعمال السلاح، وإنْ تكن الأمور تجري تحت التهديد باستعمال السلاح، وهذه حالٌ لا يمكنها أن تستمر طويلاً. وإذا تجرّأت الشيعية السياسية المحدثة (وهي مؤلفة من عدة طوائف) على المجازفة في خوض مغامرةٍ عسكريةٍ لفرض دستور جديد بالقوة، ويُقصد بذلك المؤتمر التأسيسي المقترح، فالأرجح أن تخرج منها بخسران عظيم، جرّاء تحالف جميع الطوائف الأخرى عليها، إلا في حالة واحدة، أن تصبح إيران حاكمة في دمشق وحدها، وهو أمرٌ يقارب المحال.
يلوح لكاتب هذه المطالعة أن من المحال إرساء نظام لبناني سياسي مستقرّ ومستدام بين الطوائف اللبنانية الرئيسة، فالطوائف ليست جماعاتٍ من المؤمنين، بل أشبه بالأمم التي تمتلك السطوة والسيطرة على الرعايا والمصالح والثروات والمناصب. ومن دون الاتفاق على رسم الحصص السياسية والمصالح بدقة، فإن القوي يستطيع أن يأكل، في أحوال مواتية، حصص الطوائف الأخرى أو جانبًا منها. ولا حلّ على الإطلاق لصراعات الطوائف في لبنان، خصوصًا أن كل طائفة لا تعدم وجود دولةٍ خارجية تشد أزرها وتدعمها وتجند قواها السياسية لخدمتها. وهذا ما كان من شأن فرنسا حامية الموارنة والكاثوليك قديمًا، وروسيا حامية الأرثوذكس، وتركيا حامية السُنة، وبريطانيا حامية الدروز. واليوم تحمي إيران الشيعة، وتحمي الولايات المتحدة وأوروبا المسيحيين، وتحمي السعودية السُنة.
ما الخيارات؟
لا توجد خياراتٌ أمام اللبنانيين للخروج من صراعاتهم الطائفية إلا بتأسيس دولةٍ فوق الطوائف، أي دولة عَلمانية ديمقراطية قائمة على فكرة المواطنة المتساوية والحريات، وملتزمة القضية الفلسطينية، ومنتمية إلى النطاق العربي. وهذه مهمةٌ تبدو مستحيلة، لأن الطوائف اللبنانية ما برحت تتصدّى لهذه الفكرة بكل قواها، لإدراكها أن من شأن الدولة العَلمانية أن تنتزع من تلك الطوائف المنغلقة سيطرتها على حياة الناس وآخرتهم، خصوصًا في مجال الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والإرث والأوقاف). والدولة القديمة في لبنان كانت دومًا أضعف من طوائفها، فيما الدولة الحامية قديمًا، والراعية حديثًا، يجب أن تكون أقوى من جميع طوائفها. ومن غير المتوقع أن تنحو هذه الطوائف المسلحة والمتعصبة، والكارهة للآخر المختلف عنها، إلى تأسيس دولة عَلمانية حديثة بالاقتناع المنطقي. والتجربة العالمية شبه الوحيدة التي نجحت في هذا المجال هي التجربة الأميركية، حيث أسّس نفر من المؤمنين، مختلفي العقائد الإيمانية والانتماء الكنسي، دولة فوق الكنائس المتنازعة. لقد خشي المنتمون إلى الكنائس الأميركية المختلفة (نحو ألف كنيسة اليوم) أن يصبح للدولة كنيسة تسيطر على البلاد، وتُقصي بقية الكنائس عن الحيّز العام، فاختاروا، تحت ضغط الواقع، أن يؤسّسوا دولة علمانية، أي دولة بلا كنيسة، فالولايات المتحدة الأميركية، بهذا المعنى، دولة عَلمانية، بدستورها وقوانينها، أسسها مؤمنون، وبعضهم متعصّبون لكنائسهم. لكن تلك الدولة تطوّرت، بالتدريج، في سياق مستقل عن الطوائف الدينية الموجودة فيها، وطوّرت لنفسها "دينًا مدنيًا" مزيجًا من المُثل الأخلاقية المسيحية والقيم العلمانية، لكنه ليس دينًا، وليس لاهوتًا.
لا توجد خياراتٌ أمام اللبنانيين إلا بتأسيس دولةٍ فوق الطوائف، أي دولة عَلمانية ديمقراطية قائمة على فكرة المواطنة المتساوية والحريات، وملتزمة القضية الفلسطينية، ومنتمية إلى النطاق العربي
هل يمكن أن تنشأ في لبنان دولة فوق طوائفها ومستقلة عنها؟ من المحال الإجابة عن هذا التساؤل، ومن المحال أن تنشأ مثل هذه الدولة إلا في حالة وحيدة، أن يُرغِمَ الانهيارُ الكبير في المال والاقتصاد والإدارة والسياسة الطوائفَ على السير بهذا الخيار تحت العصا الدولية هذه المرّة، أي في معمعان التدخل الخارجي. ومن دون ذلك، فإن دماءً كثيرة ستسيل، فالطوائف جماعات عضوية لها مصالحها المتشعبة، ولا يشكل الإيمان الديني إلا عنصرًا هشًا في تقرير السياسات العامة، لكنه شديد الأهمية في تكوين هوية الطوائف، وانتماء أبناء هذه الطوائف إلى هوياتهم القاتلة، بوصفهم جماعات عضوية ووظيفية. ففي هذه البلاد، كانت التطورات الحاسمة تأتي بعد الحروب المسلحة في معظم الأحيان، فقد فرضت الدول الست الكبرى في سنة 1861 بروتوكول متصرفية جبل لبنان بعد الحرب الأهلية في سنة 1860. وفرضت فرنسا صيغة "لبنان الكبير" (جبل لبنان وما اقتُطع من الشام مثل بيروت وطرابلس وصيدا وحاصبيا وبعلبك وعكار) بعد هزيمة جيش الملك فيصل الأول في معركة ميسلون في سنة 1920. وفرضت الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية وسورية اتفاق الطائف في خاتمة الحرب الأهلية اللبنانية. وحتى اتفاق الدوحة، وهو تفصيل، ما كان ممكنًا لولا هجوم حزب الله وحركة أمل على مدينة بيروت في 7/5/2008. والآن، أي تعديل على اتفاق الطائف من خلال عَقد مؤتمر تأسيسي لصوغ دستور جديد قائم على المثالثة بدلاً من المناصفة، وهو مطلبٌ غير معلن لأوساط مهمة من الشيعة، لن يمر بهدوء من خلال التفاوض الطبيعي، ودونه حروبٌ طائفية مدمرة، ومن غير الممكن أن نعرف نتائجها منذ الآن.
لا هوية مشتركة
لا توجد هوية مشتركة للجماعات اللبنانية، ولم يتمكّن اللبنانيون، طوال مئة عام، من تطوير هوية شاملة وموحّدة لهم وجامعة لأشتاتهم، فبعضهم يعرّف نفسه عربيا، وبعض آخر يعتبر نفسه غير عربي، وهناك مَن يؤمن بأنه سوري، فيما يعتقد آخرون أنهم من "الجنس الفينيقي". وثمّة مَن يعيد نَسَبه إلى السريان، وآخرون أكراد أو أرمن أو شركس أو عجم أو أرناؤوط أو أفارقة أو يونان. وقلة من هذه الجموع مَن يلتزم الوطنية اللبنانية ذات البعد العربي. وقد فشل الكيان اللبناني في تأسيس هوية تاريخية وثقافية جامعة، مثلما فشل في عملية الاندماج الوطني على قاعدة المساواة، وهذا متوقع منذ جرى فصل لبنان عن سورية بعملية استعمارية قيصرية في سنة 1920 خلافاً لإرادة أبناء هذه البلاد. وحتى الرموز التقليدية للدولة اللبنانية الناشئة، لم تتمكن من أن تحوز احترام الفئات الطائفية المختلفة. فالأرزة، وهي شعار الدولة، يُسميها الموارنة الجبليون "أرز الرب"، فيما كان السُنة في المدن الساحلية يصفونها تهكماً بـِ "القرنبيطة". وعلى هذا المنوال، يحَظى العَلَم والنشيد الوطني بالاحترام في بعض المناطق، فيما تجري السخرية منهما في مناطق أخرى تبعًا للانتماءات الطائفية. واللافت أن تمثال فخر الدين المعني الذي جعله الموارنة ومؤرّخوهم أميرًا وبطلاً قوميًا، قد جرى تفجيره في بلدة بعقلين الشوفية، وهي بلدته الأصلية، قبل أن يعود التيار الجنبلاطي الذي كان يكره فخر الدين، إلى القبول به وبأسطورته المخترعة وخرافات تاريخه المزيّف (راجع: صقر أبو فخر، الخرافة والتزوير والسجّل المبين لحكاية فخر الدين، العربي الجديد، 29/9/2020).
لبنان اليوم ليس دولة، ولم يكن على هذا النحو في أي يوم؛ كان أشبه بمكان جغرافي تتعايش فيه القنافذ المتحفزة، أي الطوائف، وتتناقر. فحين يكون هناك ازدهار ومنافع وثروات وسلطات موزعة بالتراضي، تتقارب القنافذ بعضها من بعض، وتتجمع وتتحاور وتتفاهم. وحين تقل مصادر الثروة، ويبدأ التزاحم والتنافس على البقايا، لا تتورّع تلك القنافذ عن إشعال الحروب من أجل البقاء. وقد حافظ لبنان هذا، طوال خمسينيات القرن العشرين وستينياته وسبعينياته، على صورة زائفة كبلد مزدهر وديمقراطي وفيه حريات كثيرة، وجرى ترويجه سويسرا الشرق، وأنه يشبه المنزل الجميل المشغول بعناية وتنميق. لكن، كان هناك، في الوقت نفسه، قبو كبير خفي في ذلك المنزل تعيش فيه شياطين لا حصر لها من عفاريت المال والنهب والفساد والتجارة غير المشروعة وخلايا الاستخبارات ووكلاء تصدير السلاح واستيراده.
استعصاء المخارج
لا مخرج للبنان ولشعبه، وحتى لطوائفه، إلا ببناء دولة عَلمانية ديمقراطية على قاعدة المواطنة المتساوية. وكل ما كان يُزعم ويُحكى عن لبنان الديمقراطي القديم هو دعاية وتزييف للتاريخ القريب، فالنظام البرلماني اللبناني قبل اتفاق الطائف الموقّع في سنة 1989 كان رئاسيًا، والديمقراطية فيه شكلية، فيما الحريات كانت وافرة. فالديمقراطية تعني، أولاً وقبل أي شيء، المساواة. أما في لبنان فلم يكن ثمّة أي مساواة، حيث السُني، على سبيل المثال، لا يستطيع أن يكون رئيسًا للجمهورية أو قائدًا للجيش أو رئيسًا لمجلس النواب أو رئيسًا لمجلس القضاء الأعلى. وعلى منواله تكون حال الشيعي والدرزي والكاثوليكي والأرثوذكسي، ولهؤلاء مقاعدهم المخصوصة، لأن الحصص مقسومة سلفًا، والمناصب مرسومة بدقة. وكلما حاولت هذه الطائفة أن تمدّ يدها إلى حصة تلك الطائفة، بقوة التغلب أو بالغلبة العددية، انقلبت الأمور حرباً.
لم يكن النظام اللبناني ديمقراطيًا ألبتة، بيد أن ما امتاز به ذلك النظام على النظم العربية الأخرى هو شيوع الحريات فيه، وهي حرّيات غير أصلية، بل مشتقة من تعدّد الطوائف حيث لكل طائفة رأي أو آراء. وقد رعى زعماء الطوائف الديكتاتوريون تلك الحريات التي كانت تلائم تدفق الأموال العربية والسياح العرب. وفي التاريخ اللبناني القريب تجربة ذات دلالة فائقة الأهمية هي تجربة أنطون سعادة الذي تواطأ الجميع عليه وعليها، فاغتالوه في سنة 1949 بنذالة. لماذا؟ لأنه، بكل بساطة، تجرّأ على الدعوة إلى العَلمانية في بلد أسّسه الاستعماران، الفرنسي والانكليزي، على قاعدة الطوائف الدينية؛ ولأنه دعا إلى الوحدة السورية في بلد تَنَازعَ أهلُه طويلاً في الموقف من الوحدة السورية، ثم استقرّ معظمهم على القبول بهذا الكيان؛ ولأنه ناصب الصهيونية العداء المطلق في بلدٍ كانت إحدى وظائفه المضمرة حماية أمن "دولة اليهود" في فلسطين، فلم تتحمّله الطوائف الذئبية في لبنان، واحتجّت عليه بالتمرّد المسلح الذي قاده في سنة 1949 ضد طائفية نظام بشارة الخوري – رياض الصلح وفساد عهدهما، فاعتُقل بخسّة، وحوكم وأُعدم خلال ساعات، وكانت تلك جريمة واضحة تطابق جرائم العصابات لا جرائم الدول.
المخرَج واضح تماماً: دولة ديمقراطية عَلمانية غير فيدرالية، ومجتمع واحد متعدّد الديانات، أي شعب واحد ومواطنون متساوون، ودولة واحدة عادلة وراعية
تدل هذه التجربة على شراسة الطوائف واستعدادها للقتال دائمًا. لكن الانهيار اللبناني المروّع الذي تَسَارع في عام 2019، ويكاد يُنهك جميع أبناء الطوائف، ويجعل لبنان بلدًا قاحلاً تماماً، ربما يؤسّس وعيًا جديدًا (وهو ما ليس واضحًا حتى الآن ومشكوكًا فيه في المستقبل)، أو أن يطوّر قوة إرغامية لإجبار الطوائف وزعمائها على السير الحثيث نحو مخرجٍ يقي اللبنانيين الحرب الأهلية مجدّدًا. والمخرَج واضح تماماً: دولة ديمقراطية عَلمانية غير فيدرالية، ومجتمع واحد متعدّد الديانات، أي شعب واحد ومواطنون متساوون، ودولة واحدة عادلة وراعية. ولا يمكن تطبيق هذه الفكرة إلا بقوة الدولة وقوانينها الموحِّدة للجميع، كقانون الأحوال الشخصية حيث لا يُعتد بشرائع الطوائف، بل بقوانين الدولة. وبعد ذلك ليذهب مَن يريد الزواج مثلاً إلى الكاهن ليبارك له زواجه في الكنيسة، أو إلى الشيخ ليزكي هذا الزواج، لكن، بعد أن يكون قد تزوج أمام هيئة عامة رسمية. وعلى هذا الغرار، يجب أن يكون قانون الأحزاب، بحيث لا يكون ثمة مجال لتأسيس أحزاب طائفية، وإلا سيصبح لدينا حزب الأخوان المسلمين (وهو موجود) وحزب للأخوان الشيعة، وحزب للأخوان الموارنة، وحزب للأخوان الدروز .. وهكذا. فالأحزاب إما أن تكون وطنية أو لا تكون. وفوق ذلك، لا مجال للأحزاب الاثنية، حيث لا يجوز تأسيس حزب كردي خالص أو حزب شركسي أو أرمني أو فارسي يكون وقفًا على إثنية معينة من دون سائر المواطنين.
حنّا أسوأ من شقيقه حنينة
لا تبدو إرادة الخروج من قواقع الطوائف قوية في لبنان، بل التعصب المذهبي والكراهية الطائفية هما الأعلى صوتًا. والتطلع إلى الفيدرالية على أساس طائفي بات تطلّعًا لا يخجل منه دُعاته (راجع أدبيات المؤتمر الدائم للفيدرالية وأمينه العام ألفرد رياشي). ومن الصعب جدًا تطبيق الفيدرالية في لبنان من دون المرور بمعمودية النار والدم، أي الحرب الأهلية. ثم إن ضعف إرادة الخروج من مَعازِل الطوائف، علاوة على ضمور التفكير العلماني، يعودان أساسًا إلى انكماش الأنتلجنسيا اللبنانية منذ نحو نصف قرن تقريبًا، أي منذ اندلاع الحرب الأهلية، وعجز تلك الانتلجنسيا عن انتزاع موقع لها ولأفكارها. ومع أن الحرب الأهلية طوت حقبة العنف المباشر، إلا أن لبنان صار قاحلاً، وما عاد هناك مفكّرون لبنانيون مناضلون نذروا أفكارهم وأنفسهم لتطوير لبنان بصورةٍ تختلف، من بابه إلى محرابه، عن صورة لبنان القديم الذي لم يكن غير ميدان مبارزةٍ بين الطوائف التي تتقاتل باستمرار على السلطة والثروة. ومع انكماش الأنتلجنسيا التاريخية ذات التطلّعات الثورية، برزت النخب اللبنانية الجديدة التي تعلمت في جامعات أوروبا وفرنسا وأميركا، واكتسبت خبراتٍ شتى في عوالم المال والمقاولات والإدارة والاقتصاد، لكنها ظلت نخبًا تابعة وذليلة، تتطلع لا إلى لبنان ديمقراطي علماني، بل إلى اكتساب الثروة والمكانة أولاً وأخيرًا. فالواحد من هذه النخب كان يذهب إلى أوكسفورد أو كيمبردج أو هارفارد أو برنستون ليتعلم ويكتسب الخبرات. وحين يعود إلى بلده، فإن أول ما يقوم به هو الذهاب إلى زعيم طائفتهن ليؤمّن له وظيفة راقية في الدولة اللبنانية، كمدير عام مثلًا، أو أستاذ في الجامعة، أو سفير، وربما يصبح نائبًا أو وزيرًا، ثم ينضم إلى حزب الزعيم، أو يصبح من أتباعه المطيعين. وهذه النخبة شديدة السوء وفاسدة، وفاشية في معظم الأحيان. وبهذه الصفات، تؤدي دورًا بالغ الانحطاط، إذ تشكل وسيطًا بين الفئات الشعبية وزعماء الطوائف، ولا تكلّ عن امتداح سياسات الزعيم وتبرير فساده وسلوكه، خصوصًا أنهما تمتلك عُدّة إقناعية قوية جرّاء تعليمها وخبراتها.
النخب اللبنانية، إلا القليل منها بالطبع، أسوأ من زعمائها. والأنتلجنسيا الثورية المناضلة تكاد تندثر
النخب اللبنانية، إلا القليل منها بالطبع، أسوأ من زعمائها. والأنتلجنسيا الثورية المناضلة تكاد تندثر. والطبقات الشعبية، بما في ذلك فئاتها المتعلمة والطموحة، غارقة في هَوَسها الديني وانغلاقها وتعصبها، وواقعة تحت سيطرة رجال الدين الجهلة ورجال السياسة الحمقى ورجال الأعمال اللصوص. ولهذا، الخروج من مستنقع الانحلال الراهن مسألة تكاد تساوي الاستحالة، وتكاد تعادل المعجزة.
لقد اندثر لبنان الذي عرفناه جيدًا جرّاء خبال زعمائه وانحطاط قادته، وها نحن عاجزون عن رؤية لبنان الجديد الذي يتململ في مخاضٍ أليم ولا يولد. وأشكّ شكًّا عظيمًا في إمكانية انبثاق لبنان جديد أفضل من لبنان القديم الذي كان مجرّد ميدان للمشكلات التي لا تنتهي، ولتنازع الجماعات؛ فالطوائف لا تؤسّس أمة، بل تدمّرها.