أقاليم سودانية ضد هيمنة المركز
في السياسة ثنائيات تكوّنها خيارات متقابلة، فيتقابل خياران في كل ثنائية، يكون لكليهما مزايا لا توجد في الآخر، وكذلك الحال في ثغرات كليهما. ولذلك ينشأ جدالٌ لا ينتهي بين أنصار الخيارين، ولعل أشهر ثنائيات الحكم في السودان هي النظام البرلماني الذي يقابله النظام الرئاسي، وكذلك الحكم المركزي الذي تقابله اللامركزية.
تدفع الحركة المطلبية القوية التي تنتظم في هذه الأسابيع في إقليم شرق السودان إلى استعراض محاولات أقاليم السودان المختلفة للفكاك من هيمنة المركز، ونيل درجة من الاستقلالية تجعل أهل كل إقليم يديرون شأن إقليمهم الذي خبروه، بأفضل مما يفعل حكام الخرطوم.
اعتمد السودان، بعد استقلاله في عام 1956، الحكم المركزي باعتباره الضمانة الأقوى لوحدة الوطن والحامي من أي احتمالات لتفلت الأطراف، الذي قد يتيحه الحكم اللامركزي.. حري أن يُذكر هنا أن اعتماد هذا النظام قد خالف وعداً قُطع لنواب إقليم جنوب السودان في البرلمان الأول بمنح الإقليم الجنوبي حكماً فيدرالياً في إطار السودان الموحّد. وكان نواب الجنوب قد اشترطوا الفيدرالية في مقابل التصويت لمقترح الاستقلال، وقد فعلوا، لكن الحكومة الوطنية نقضت وعدها، وألحقت الجنوب بالمركز القابض، فكان ذلك سبباً غير مباشر في تمرّد الجنوبيين الذي أفضى، في النهاية، إلى انفصال جنوب السودان ونشوء دولة مستقلة فيه.
تدفع الحركة المطلبية القوية التي تنتظم في هذه الأسابيع في إقليم شرق السودان إلى استعراض محاولات أقاليم السودان المختلفة للفكاك من هيمنة المركز
كان اختلاف الجنوب وتميزه عن بقية أقاليم السودان واضحاً، وكانت المظالم الواقعة عليه أشد وطأة، فلم يكن مستغرباً أن يقوى فيه الصوت المتمرّد على المركز، ويطغى على ما عداه في أقاليم أخرى، طالبت أيضاً بقدرٍ من الاستقلالية عن المركز المهيمن، كما حدث في شرق السودان بظهور مؤتمر البجا في عام 1957 الذي طالب بحقوق الشرق، ثم تأسّست جبهة نهضة دارفور عقب ثورة أكتوبر 1964. نجحت الأحزاب الكبيرة في احتواء تلك الحركات الإقليمية تنظيمياً، بأن أصبح مؤتمر البجا جزءاً من الحزب الاتحادي الديمقراطي، واستوعب حزب الأمة جبهة نهضة دارفور، لكن الحزبين الكبيرين اكتفيا بذلك المكسب التنظيمي، وتجاهلا تقديم رؤيةٍ تستجيب لمطالب أهل الأقاليم.
لم يعد إنكار "ململة" الأطراف أو تجاهلها مجدياً، فعمد نظام الرئيس الأسبق، جعفر نميري، إلى الاعتراف بهذه الحقائق، ليمنح جنوب السودان الحكم الذاتي الإقليمي الذي كان أهم بنود اتفاقية أديس أبابا للسلام مع حركة التمرّد العسكرية في الجنوب. ثم أدرك النظام أن الحكم الإقليمي لا يناسب الجنوب وحده، بل هو أفضل نظام إداري للسودان كله، فمنح السودان الشمالي الحكم الإقليمي، لينتقل السودان أول مرة إلى اللامركزية. وحفاظ النظام الديمقراطي الذي أعقب سقوط نظام نميري على الحكم الإقليمي أبلغ دليل على أن اللامركزية أصبحت أمراً متفقاً عليه بين مختلف الأنظمة، ديمقراطية كانت أو شمولية. وزعم الديمقراطيون، بعد إسقاط نظام نميري، أنهم منحوا اللامركزية بعداً مهماً متمثلاً في ديمقراطية اتخاذ القرار، حتى لا تستبدل هيمنة المركز بهيمنة الرئيس الدكتاتور. وعلى الرغم مما سيق من اتهامات ضد "مايو" (نظام نميري)، يبقى أنه هو المؤسّس للامركزية في السودان التي بقيت مع النظام الديمقراطي، واستمرّت مع نظام الإنقاذ، دليلاً على أنها النظام الإداري الأفضل لبلدٍ شاسع المساحة متعدّد الثقافات والأعراق.
السودان مقبلٌ الآن نحو تجربةٍ جديدةٍ قوامها حكم إقليمي في نظام ديمقراطي
تأكيداً على هذه الحقيقة، واصلت حكومة ثورة ديسمبر التي أطاحت نظام عمر البشير الحفاظ على اللامركزية، واعتمدت الحكم الإقليمي ليكون السودان ثمانية أقاليم، بدلاً من ثماني عشرة ولاية، وهو تعديلٌ لا يمسّ روح الحكم اللامركزي، بل إنه يمنح استقلالية أكبر للإقليم الذي تتبع له عدة ولايات، ويتمتع بسلطات تشريعية وتنفيذية غير مسبوقة.
سارعت حكومة الثورة إلى تعيين مني أركو مناوي، وهو أحد قادة الحركات المسلحة التي خرجت على نظام البشير، حاكماً على إقليم دارفور، لتؤكّد جدّيتها في تحقيق مطالب الإقليم وتحقيق السلام فيه. ولكن لوحظ أن الحكومة قد سارعت إلى تعيين الحاكم قبل إصدار قانون الحكم الإقليمي، الشيء الذي اعتبره بعضهم مجاملة على حساب ضوابط الدولة، بل ذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، متهمين الحكومة بافتقاد نفس الثورة الحار الذي يدفع الثوريين دفعاً إلى اتخاذ قرارات التغيير الكبرى بلا إبطاء. ولا تملك حكومة الثورة دفعاً لهذا الاتهام، خصوصاً أن تأخرها في إصدار القانون، ومن ثم في تعيين حكام للأقاليم، قد ألّب عليها الجماهير في الأقاليم التي انتظرت التغيير طويلاً. وتعتبر ثورة الشرق الأشدّ تعبيراً عن الغضب على حكومة الثورة، حيث قطعت جماهير الشرق الطريق الذي يربط القُطر بميناء بورتسودان في أقصى شرق السودان.
تعتبر ديمقراطية الحكم ضرورةً لا غنى عنها للحكم اللامركزي، حتى لا يفقد مضمونه
بعد تجربة الحكم الوطني التي امتدت أكثر من ستة عقود، تتضح بجلاء بعض الثوابت والمشتركات فيما يخص النظام الإداري للسودان، لعل أبرزها صلاحية الحكم اللامركزي الذي لا بديل له في حكم القطر المتمدّد. ويأتي تالياً أهمية تصحيح مسار اللامركزية بسدّ أي ثغراتٍ تظهر خلال الممارسة، مثل تقوية الحكم المحلي الذي يشكل أدنى درجات الحكم اللامركزي، أو الانتقال بين درجات اللامركزية المختلفة حسب مقتضيات الحال، كما حدث بالفعل بعد الثورة. وتعتبر ديمقراطية الحكم ضرورةً لا غنى عنها للحكم اللامركزي، حتى لا يفقد مضمونه.
السودان مقبلٌ الآن نحو تجربةٍ جديدةٍ قوامها حكم إقليمي في نظام ديمقراطي. ولن تنجح التجربة لمجرّد اعتماد "شكل" الحكم الذي يحمل نظرياً مزايا عديدة، إذ لا بد من أن يبرهن الحاكمون عملياً على قربهم من نبض الشارع. ولا بد من إزالة المخاوف التي يبديها بعضهم من احتمالات تفكّك الوطن أو تقسيمه، وذلك بأن تقوّي الأقاليم الثمانية المشتركات الوطنية فيما بينها، على الرغم مما اكتسبته من استقلالية، وترتبط جميعاً بعلاقة مع المركز فيما يتعلق بسياسات الدفاع والعلاقات الخارجية، مع تنسيق مالي يحقق التوازن مع الأقاليم ذات الموارد الأقل.
يبقى أن تسرّع حكومة الثورة بإصدار قانون الحكم الإقليمي وتعيين حكام الأقاليم، حتى لا تدع للشموليين فرصة لادّعاء أن النظام الديمقراطي في العالم الثالث متلكئ بطبيعته، بما يجعله غير مؤهل لتحقيق مصالح هذه الشعوب.