أكاديميون و"حفارو قبور" أيضاً
تتوالى في فضاء الخطاب العربي منذ سنوات "رثاءات" ركيكة للديمقراطية، وكأننا قد جرّبناها واحترمنا إجراءاتها والتزمنا بقيمها عشرات السنين فخذلتنا... والظاهرة ليست مستغربة في سياق مسار السياسة العربية منذ ثورة السودان (إبريل/ نيسان 1985)، وأعتبرها البداية الحقيقية للربيع العربي، لكن الجديد أن طابورًا أطول من الأكاديميين العرب لم يعد قادرًا على تجاهل حاجة ملحّة لدى أنظمة عربية مؤثرة إلى خطاب معادٍ للديمقراطية يُنشَر بتوقيع حملة ألقاب أكاديمية. وبعد أن طوى العالم العربي (مؤقتًا) خطاب "ديمقراطية رغيف الخبز" الذي استخدمته نظم عربية عديدة منذ خمسينات القرن العشرين، ثمّة عودة أكثر تبجّحًا إلى لعبة "الخمر القديمة" و"الدنان الجديدة". والتناغم بين خطاب خطر الديمقراطية على "الدولة الوطنية"، وخطاب تراجع الغرب نفسه عن الديمقراطية، مؤشّر على رفضٍ أكثر عمقًا لكل أشكال الفصل بين السلطات أو إمكان مساءلة السلطة التنفيذية، فضلًا عن الإنكار الذي يزداد وضوحًا، باستمرار، لفكرة أن للمحكومين أي "حقوق" أصلًا.
والدور الذي لعبه أكاديميون عرب كثيرون بأن تولوا مناصب تنفيذية في نظم استبدادية قضية مسكوتٌ عنها، رغم أن تأثيرها في العقود القليلة الماضية يمكن أن يُقارَن، في خطورة آثاره، بأدوار النخب البيروقراطية والمالية ونخب "الحزب الواحد" التي تحالفت في حالات عدة لإجهاض التغيير الديمقراطي. وعلى سبيل المثال، القسم الأكبر من السياسات المالية (والاقتصادية) الفاشلة خلال نصف القرن الماضي خطط لها أكاديميون، وتولّى تنفيذها أكاديميون، وكانت حصيلتها فشلًا أشعل موجة ثورات بدأت في تونس (2010) ولم تتوقف، فمتى يتحمّل الأكاديميون الذين وفّرت مشاركتهم في تجارب الإخفاق الاقتصادي العربي المتتالية مصداقية أكاديمية زائفة نصيبهم من المسؤولية عنها؟
درجة علانية الدفاع الصريح عن الفاشية والاستبداد، تزداد منذ سنوات، في خطاب شريحةٍ من الأكاديميين يتضخّم حجمها بسرعة
كانت العلاقة بين النخبة الأكاديمية والسلطة في دول كثيرة تقوم على "تفاهمات ضمنية" صامتة، سمحت بوجود خطاب أكاديمي لا تسعى السلطة إلى "تأميمه"، بينما بعض منتجي الخطاب الأكاديمي تعارضت ممارساتهم الفعلية في السلطة تعارضًا تامًا مع ما كتبوه في دراساتهم أو أطروحاتهم الأكاديمية. وهذا الهامش الذي كان هدنة طويلة الأجل يحترمها الطرفان، يتآكل بوتيرة ملحوظة في دول عدة. ومن نتائج ذلك درجة علانية الدفاع الصريح عن الفاشية والاستبداد، تزداد منذ سنوات، في خطاب شريحةٍ من الأكاديميين يتضخّم حجمها بسرعة. وحاجة كل اجتماع إنساني (وطبعًا كل اجتماع سياسي) إلى "شهود" حقيقة قديمة/ جديدة، وقديمًا قال الشاعر: "لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم/ ولا سراة إذا جهالهم سادوا"، فكيف إذا ساد "حفارو القبور"؟
وفي كثير من قضايا الاجتماع الإنساني، تتحرّك الجموع (متمرّدة أو منصاعة) خلف من يرجّحون أنهم يرشدونهم إلى "الصواب"، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرائد لا يكذب أهله"، فلا تكاد ممارسة حق الاختيارين، الجماعي والفردي، حتى في أكثر الديمقراطيات عراقة، تخلو من استرشاد صريح أو ضمني برأي النخب وانحيازاتها، وعندما تجتمع المكانة الاجتماعية أو القدرة على التأثير مع "سحر اللقب الأكاديمي" يكون التأثير أكبر. وتلك إحدى مشكلاتنا مع بعض أصحاب الألقاب الأكاديمية العرب، أولئك الذين وفّروا، لعقود، قناعًا زائفًا من المصطلحات الفخمة والإحصاءات "المُضلّلة" المربكة، والحقائق المجتزأة المنتزعة من سياقها، وهو ما يطلق عليه في مدرسة العلوم الإنسانية الأنغلوسكسونية: "الأكاذيب الصادقة" (True Lies)، وقد شمل ذلك تسويق أنظمة مستبدّة أو اختيارات سياسية أو اقتصادية ينتظرها الفشل الحتمي!
مثل هذه النخبة لا غنى عن دورها للحاكم والمحكوم، والافتقار إليها قد يكون، آنيًا، مريحًا لمن يفضل "السيطرة" على "الاتساق" مع النخبة و"التراضي" مع العامة
ورثاءات الديمقراطية الممهورة بتوقيع هؤلاء إحدى العقبات المؤثرة في قطاعات واسعة من شعوبٍ، لا يجادل منصف في أنها تفتقر إلى معظم مدخلات بناء الشخصية الناضجة، من التعليم الجيد إلى الإعلام الحر إلى خبرات الممارسة الديمقراطية، ... وغيرها من الموارد التي تسهم في أن يحصل كل مجتمع على نخبة "مؤتَمنة"، تُرشد ولا تضلل، وتحترم بصرامة ما تعلمته، وتحرص على صيانة سمعة ألقابها الأكاديمية. ومثل هذه النخبة لا غنى عن دورها للحاكم والمحكوم، والافتقار إليها قد يكون، آنيًا، مريحًا لمن يفضل "السيطرة" على "الاتساق" مع النخبة و"التراضي" مع العامة. وعلى سبيل المثال، إحدى الخلاصات التي تكاد اليوم تكون موضع إجماع أن اليابان كان بإمكانها تجنّب الانخراط الجنوني في الحرب العالمية الثانية، لولا ما تعرّضت له نخبتها من إضعاف مُخطط.