عرب النكبة وعرب طوفان الأقصى

28 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

شكلت أحداث مفصلية، خلال القرن الماضي، لحظة تحول في الوعي العربي، رغم أن التعبير ينطوي على قدر من التجاوز، حيث الاختلافات، بل التباينات، أفقيّاً ورأسياً، كانت دائماً حاضرة بدرجات مختلفة، فمعظم النخب الحاكمة كانت، ولا تزال، تتبنى رؤية، وتقيس بمعايير، وتزن بموازين، تجعلها تعبيراً باهتاً، بل ربما مخادعاً، عن قناعات شعوبها.

وقد كانت "النكبة" في صدارة الأحداث التي تغيرت بعدها عدة دول عربية تغيراً تاماً عما كانت قبلها، وشهدت سنوات ما بعد النكبة صعود نخب عسكرية عربية لتطيح كل معالم الحكم المدني في بلادها، وشكلت نوعاً من الرد على الهزيمة/ الصدمة التي غيرت الجغرافيا العربية. كانت الاستجابات الرسمية العربية لتحدي المشروع الصهيوني استجابة المصدوم. واليوم بعد "طوفان الأقصى" يغلب على الاستجابة الرسمية العربية لتحدّي خطر "الدولة الصهيونية" أنها أقرب إلى استجابة الجسد المسجى المستند إلى منسأة "الواقعية السياسية"، قال تعالى في وصف مشهد موت نبي الله سليمان عليه السلام: "ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته".

ومن الإضلال وصف ما يحدث بأنه واقعية سياسية وحتى استسلام مهين، فالإبادة الجماعية ليست وصفاً لعمل عسكري يمكن فهمه في إطار أي حرب، والأمر نفسه ينطبق على تدمير مقومات الحياة في غزّة، واغتيال المدنيين اللبنانيين بتفجير أجهزة اتصال مدنية، وقائمة طويلة من الجرائم البشعة التي لا يقبل شعبٌ أن تكون في قاموس مفردات الصراع المسلح كما يفهمه.

لسنا أمام أعمال عسكرية، بل جرائم ضد الإنسانية، ولسنا أمام فقدان إرادة المواجهة والمقاومة، بل أمام موت.... موت عربي حقيقي، والمقاومة لا تنوب عن أحد ولا تُسقط "التكليف" عن أحد، والنخب العسكرية التي رفعت شعار محو عار هزيمة النكبة مبرراً لإطاحة النخب المدنية في سلسلة من الانقلابات العسكرية منذ أواخر الأربعينيات، هذه النخب قرّرت أن تنطق بلسان غيرها، أو تصمت حيث لا يدبّ الصمت. وقسم كبير من التاريخ العربي المعاصر تلخّصه "الإرادة السياسية" المنفردة للنخب العسكرية، وهي اليوم لا تستشعر الحرج، ولا ترى وصمة هزيمة تحتاج إلى محوها. وفي المحنة الأولى (النكبة)، قيل الكثير عن حكوماتٍ لم تكن على قدر التحدّي ومجتمعات "قاصرة" تحتاج "وصاية عسكرية" إلى أن تبلغ سن الرشد، واليوم لا صوت ولا صدى!

سردية "الواقعية السياسية" تحوّلت إلى موت سياسي وأخلاقي مخيف

صمود الفلسطينيين (مقاومين ومدنيين)، حقيقة تتجاوز حدود المعقول والواقعي، وعجز الشعوب العربية يؤكّد زيف التبريرات التي أنتحلتها النخب الرسمية لما يزيد عن نصف قرن، فالشعوب أصبحت أكثر عجزاً، سواء بسبب القهر الأمني أو الضغوط الاقتصادية غير المسبوقة، أو الفقر الأخلاقي المدقع الذي جعل شرائح غير قليلة من المجتمعات العربية لا تكاد تبالي بالكارثة الفادحة. وحتى لا يُفهَم من هذا التقييم أنه يغفل مظاهر التضامن الملموسة، في حدود المتاح، لكن البريطانيين، كل البريطانيين، (على سبيل المثال)، عاشوا في سنوات الحرب العالمية الثانية أهوالاً تعجز اللغة عن وصفها حتى لا يستسلموا للنازي، وقبل دخول أميركا الحرب مباشرةً كانت أحياء كاملة في لندن مدمّرة بالكامل حرفيّاً، وظل الشعب صامداً يرفض مجرد فكرة الاستسلام.

وفي قلب ملحمة "طوفان الأقصى" والمواجهة الكبيرة بين إسرائيل وحزب الله، يبقى رد الفعل العربي، غير الرسمي، أقل بكثير من الطبيعي ومن المتوقع. والحقيقة الخطيرة التي تشير إليها وقائع ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، أن سردية "الواقعية السياسية" تحوّلت إلى موت سياسي وأخلاقي مخيف، والسنوات العصيبة التي أعقبت انطلاق عجلة "الثورة العربية المضادّة" لإجهاض "الربيع العربي" قتلت بعض أكثر الأشياء نبلاً في المجتمعات العربية، واليوم يقف عشرات الملايين من العرب لحظة مذهلة من لحظات التاريخ العربي، مستندين إلى منسأة الحلم، والأمل.

بينما جثة النظام الرسمي العربي والنخب التي تروج سرديته تردّد (وهي جثة مستندة إلى منسأة)، كالببغاء ضلالاتٍ تستعير مفردات: الواقعية، والحكمة، الاعتدال، وحتمية التعايش مع إسرائيل. ومستقبل أمتنا هو الآن بين "منسأتين"، إحداهما يستند إليها مقاومون وواثقون من أن الانتصار على الوحش الصهيوني ممكن، والأخرى يستند إليها ركامٌ سياسي انهار تحت دانات الدبابات الصهيونية وما زال ينتظر "دابة الأرض" لتأكل منسأته ويسقط، والله غالبٌ على أمره.