حرب المائة عام السودانية وإبادة الإسلاميين
لم يكن صادماً بقدر ما هو كاشف تصريح قائد الجيش السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، عن الاستعداد للحرب مائة عام. وتعبير "حرب المائة عام" أطلقه عام 1823 المؤرّخ الفرنسي، فيليب كونتامين، على حرب بريطانية فرنسية استمرّت 116 عاماً، ودخل المصطلح الكتب المدرسية الفرنسية في 1839.
ويشهد العالم العربي منذ بدأت "الثورة المضادّة" لإجهاض الربيع العربي صراعاتٍ مسلّحةً متفاوتةَ الحدَّة، يمكن اعتبارها متّصلة منفصلة. والصراعات أطلقها استقطابٌ إسلامي علماني من المحيط إلى الخليج. وفي السودان، انطلقت المأساة الإنسانية الأكثر فداحةً بدعم قوىً إقليميةٍ تربط الاستقرار الإقليمي بـ"إبادة الإسلاميين"، وهناك من يربط بين القضاء على حركة حماس هدفاً إسرائيلياً غربياً، والقضاء على الإسلاميين في المنطقة بالضربة القاضية. هذا الخلط يروّجه علمانيون عربٌ مُتطرّفون يشاركون بنيامين نتنياهو القناعةَ بما قاله على منصّة الكونغرس الأميركي، عندما وصف جريمة الإبادة في غزّة بأنّها صراع بين الحضارة والبربرية، وبرّر القتل بادّعائه أنّه دفاع عن الحضارة، هو الوجه الآخر للادعاء أنّ "إبادة الإسلاميين" دفاع عن الدولة المدنية. وبمفردات من قاموس الأساطير أطلق الفريق عبد الفتّاح البرهان تصريحه عن حرب المائة عام، وهو تعبير عن حمولة تاريخية ثقافية أيديولوجية تثقل كاهل هذا الجيل من العرب، الذين يعيشون واحدةً من أكثر حقب التاريخ العربي دمويةً.
كانت الحروب الطويلة مرحلةً في التاريخ الأوروبي، وأطلق المؤرّخون على حروب بعينها تعبيرات رقمية لوصف جولات متتابعة من الصراع، يرى بعضهم حتمية نقلها إلى العالم العربي لإنقاذه، بسفك دماء كلّ من يعترضون طريق "المستقبل العربي"، بوصفه مكرّراً من التاريخ الأوروبي. ولعلّ هذه اللحظة السوداوية أكثر لحظات التاريخ العربي الحديث تعبيراً عن حقيقة أنّ وباء المركزية الأوروبية قد انتقلت عدواه من دوائر النُخبة الثقافية إلى سياسات بعض الدول، فالتاريخ مسارٌ خطّي يسبقنا فيه الغرب ونحن نسير وراءه، ونلهث للّحاق بمراحل تاريخه صعوداً وانحطاطاً... ولا مفرّ.
أحد أهمّ أسباب الاستعداد للصراع مائة عام في السودان إصرار قوى إقليمية على تسليم السودان من دون قيد ولا شرط إلى سلطةٍ علمانيةٍ مُتطرّفة
وعندما تتحدّث تقارير غربيةٌ أنّ عاصمةً عربيةً تحرّكها القناعة بأنّ الدول العربية الفاشلة لا تستحقّ احترام وحدتها أو سيادتها، ويجوز التدخّل فيها بالوسائل كلّها لاستعادة الاستقرار الإقليمي لهذا الحوض الجغرافي، الذي لا يجوز أن تكون هناك تباينات حادّة في البنى السياسية لوحداته السياسية كلّها، وأول ما يجب أن يكون مُشترَكاً عامّاً، لا استثناءات فيه، أنّ الإسلاميين هم سبب البلاء والعقبة الرئيسة أمام المستقبل، وهو ما يُذكّر بقول إخوة نبي الله يوسف عليه السلام: "اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين"، فالعالم العربي بعد "إبادة الإسلاميين" سينتقل من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، وسنصبح بعد القتل (وبسبب القتل) قوماً "صالحين" (!).
وأحد أهمّ أسباب الاستعداد للصراع مائة عام في السودان إصرار قوى إقليمية على تسليم السودان من دون قيد ولا شرط إلى سلطةٍ علمانيةٍ مُتطرّفةٍ تحتكر وصف المدنية، ولا تستطيع البقاء في قيد الحياة إلّا بحماية مليشيات ترتكب الجرائم كلّها، التي تتعارض مع أبسط قواعد المدنية والحضارة والإنسانية، ولا غنى لها عن ظهير إقليمي نصَّب نفسه حامياً إقليمياً لما يعتبره "الحضارة"، ومنح نفسه الحقّ المُطلق في الاستمرار في الصراع حتّى تحقيق ما يعتبره "النصر المطلق" (وهي نفسها مفردات خطاب بنيامين نتنياهو).
طرفا الصراع في السودان شريكان في المسؤولية عن أوضاعه الكارثية، لكنّ القوّة الإقليمية، التي وفّرت الدعم المالي والسياسي لمليشيات الدعم السريع، وبرّرت جرائمها، تتحمّل المسؤولية الكبرى عن انطلاق شرارة "حرب المائة عام" السودانية، ومن الخطر جدّاً أنّ يستمرّ خلط أوراق ساحات هذا الصراع في السودان وأوراقِ غيرها من نقاط مشتعلة في خريطة العالم العربي، وبسبب هذا الخلط قارنت وسائل إعلام غربية بين تدمير غزّة وتدمير حماة في سورية قبل عقود، وربطوا بين رغبة إسرائيل العلنية في القضاء على حركة حماس، وبين أحاديث آخرين في غرف مغلقة عن مشاركة إسرائيل هذه "الأمنية السوداوية". ولقد دفع العالم العربي مرّات عدة ثمن قناعة بعضهم بأنّ رسالتهم في الحياة حراسة بوابة الحضارة الأوروبية، و"إبادة" كلّ من يمكن له أن يهدّدها، أو مباركة ذلك بالصمت... واليوم، تتدحرج كرة النار الكبرى في السودان.