أمازيغية الدول المغربية من منظور جديد
عندما حلّل علال الفاسي منطلقات الحركات الاستقلالية في الدول المغاربية، اعترف، تلقائياً، في معرض كلامه عن التنوّع العرقي في المغرب، بأن الشعب المغربي يتألف من عنصرين، هما العرب والبربر. وكان هذا الاعتراف، في تقديره، نابعاً من الرؤية السياسية الوطنية التي خبرت الحماية الفرنسية في دعوتها إلى التقسيم من خلال إنشاء "المحاكم العرفية" في المناطق الأمازيغية، وكذلك في معرض بناء تصوّر وطني، في إطار النضال المناهض لسياسة الحماية يكون متوافقاً مع التعدّد اللساني والتنوّع الإثني الموجود في النسيج الاجتماعي المغربي منذ القدم.
ولم يكن في موقف علّال الفاسي إلا ما في حقيقة المجتمع المغربي من وقائع ترتبط، بصرف النظر عن التأويل الأيديولوجي الوطني، بما انصهر في بوتقة ذلك المجتمع من عناصر وأصول وثقافات ومسارات وسياقات متداخلة كوّنت، في الاتجاه العام، ما كان عليه الشعب بعامة، بالتفاوت الاجتماعي الملحوظ والاختلاف اللساني البارز، والتناقضات المَفْصَلِيّة التي قامت عليها أبنيته، في مختلف مراحل تطوّره التاريخي. وهذا ما يصدُق أيضاً على مختلف البلدان المغاربية في علاقتها بالعنصر الأمازيغي (بالإضافة إلى عناصر أخرى) المندرج في الأساس المجتمعي للتنوّع الملحوظ على الصعيد الشعبي، كما على أصعدة أخرى، المكونة وجود ووحدة الدولة الوطنية في مرحلة ما بعد الكولونيالية.
ومن المفهوم، رغم اختلافات عقدية وإيديولوجية، وهي متضاربة، تمنطقت بالتأويل وبلورت من خلاله مطمحها السياسي أو تصوّرها النظري، أن قراءة التاريخ الأمازيغي، انطلاقاً من التسمية والمجال الجغرافي والأصول أيضاً، لا يمكن أن تقود، في المستوى الحالي من البحث، إلا إلى ما انتهى إليه المهتمون بذلك التاريخ أن الأمازيغ، في المجمل، شعبٌ وحضارةٌ قامت في أفريقيا الشمالية من خلال الممالك التي استوطنتها وتَوَّجَت هذا الاستيطان عبر العصور القديمة بما يشهد على ذلك من نفوذ سياسي، بدءاً من سيفاكس الذي سعى إلى توحيد المغارب، وانتهاء بجوبا الثاني (مملكة موريطانيا الموحّدة) الذي حوّل ذلك إلى آثار ثقافية وفنية مذكورة شاعت وذاعت في أرجاء كثيرة.
الإقرار بالديمقراطية والاعتراف بالحقوق الوطنية في إطار التعدّد الثقافي واللساني والاختيار السياسي الحر هو السبيل الممكن لضمان الاستقرار والتطور
والمهم في هذا، وهو ما يعني هذه المقالة قبل كل شيء، أن التاريخ الأمازيغي القديم، وحقيقة شعبه بالخصوص، التبست في العصور الحديثة، خصوصاً مع مقدم الاستعمار والحماية في الدول المغاربية، بكثيرٍ من الأهداف ذات الطبيعة الهوياتية التي جاءت متناقضة، حسب التصوّرات المختلفة التي وقعت عليها: ففي وقت سعى الاحتلال الفرنسي إلى الفَرْنَسَة المرتبطة بالتبشير المسيحي، طمعاً في محو الهوية الأصلية واستبدالها بأخرى تنسجم مع تصوّراته وأهدافه منها، رأينا، ولو في فترات متأخّرة، وأساساً غداة بناء الدولة الوطنية وَسَبْكِ شرعيتها السياسية وغيرها، كيف انطلق "العقل الأمازيغي"، بدافع من ذلك أو في تعارضٍ معه، في صوغ هوية متجدّدة (مفهوم الشعوب الأصلية) تحدّدت، بالنسبة لمن فكّر فيها، في اتجاهين متكاملين أيضاً: أي ابتعاث التاريخ القديم، وخصوصاً العصر الذهبي على عهد ماسينيسا (حوالي 205 قبل الميلاد) وهو الموسوم بالتحالف والصراع مع روما الهلينية (التوحيد النوميدي لمواجهة الأطماع الرومانية، وحرب يُوغُرطة)، والدفع بواجب وحق الابتعاث الثقافي واللغوي وما هو من صميم الهوية التاريخية التي ديست طوال عقود حتى كاد ينمحي أثرها في الوجود المغاربي برمته. قراءة حديثة توازت في تأويلات بعض الأشياع، من حيث الدوافع، مع التحقير المقصود للعنصر العربي الذي عُدّ مُعَادِياً وغازياً ومستبدّاً. وَسَيُمْسِي هذا الابتعاث، في إحدى القراءات الأحادية المُبتسرة، من خلال وَجْهَي الابتعاث المذكورين، دعوة صريحة إلى انفلات "النزعة الانفصالية" المبنيّة على التصوّر العرقي الخالص، وما فيها من مطالب قصوى تهدّد بقيام الحروب الأهلية.
ويتضح من هذا أن الوعي القومي الأمازيغي جاء على النقيض تماماً من مختلف السياسات المنتهجة في الدول الوطنية، من حيث رمت في مجموعها بعد مرحلة الاستقلالات، وأقواها التجربة الجزائرية بعد الانقلاب الأول (1965)، إلى التوحيد والبناء الأفقي والنهوض، وما ماثل ذلك من وسائل التنمية والضبط الاجتماعي والاستقواء بـ"الشرعية التحريرية"، على اختلاف النظم القائمة وتباين السياسات المتّبعة. إلا أن ذلك، كما هو الواضح، تم أيضاً على النقيض مما كانت تسعى إلى إقامته النخب الوطنية في مجتمعات بلدانها، أيْ تَطَلُّعها إلى ما يشبه "التسوية التاريخية" القائمة على مفاهيم الحرية والديمقراطية، مع واجب الاعتراف بالتنوّع الذي هو الأساس المجتمعي واللساني لواقع المجتمعات، سواء من كانت منها تحت سلطة النظام الرئاسي المجسّد في نظام الحزب الوحيد، أو في نطاق السلطة الوراثية التي أقرّت بالتعدّد الحزبي المُرَاقب لحماية شرعتها التاريخية المضمونة بذلك وبغيره.
أصبحت التركيبة الأمازيغية جزءاً من المشهد العام، مع وجود بعض التحفّظات، وربما مظاهر البطء والتراخي، في جعل تلك التركيبة متساوية
ومن هذه الزاوية، يمكن القول إن الصراعات التي أطلقتها "دينامية" المرحلة المتميزة في عمومها بالكبت السياسي واحتكار السلطة والانفراد بالثروة الوطنية في إطار تبعي للرأسمالية أوْجَدَت، على المستوى الشعبي وبين فرقاء المعارضة السياسية، مناخاً تعبوياً تفجّرت فيه النضالات الديمقراطية والهبّات الاجتماعية، وسواها من أشكال المواجهة الداعية إلى التغيير أو العاملة في سبيل الإصلاح. ما عجّل أيضاً، وفي الأساس من ذلك، تجارب تاريخية تميّزت بالعنف وانقشاع الأوهام السياسية المتعلقّة بالتحرّر السياسي والاقتصادي، بحدوث تغييراتٍ كثيرة، وبعضها كان جوهرياً ودموياً بدافع التآمر والانقلاب على السلطة، لعبت فيه القوات المسلحة الدور الحاسم بدون منازع.
وربما كان المدّ الذي أطلقته تلك التغييرات في مختلف البلدان المغاربية، وبصورة خاصة في المغرب والجزائر وتونس، باعثاً على انطلاق سياساتٍ خاصةٍ تَغيَّت، بكل وضوح، معالجته أو الحدّ منه حسب الظروف والأحوال، ولكن تحت ضغط نضالي مكثف صادف، على الصعيد العالمي، مرحلة خصبة من الاهتمام بحقوق الأقليات والشعوب الأصلية وغيرها من الشعارات أو النماذج. الأمر الذي قاد، من المنظور التاريخي والتعامل الاستباقي، إلى جعل الأمازيغية في أكثر من بلد مغاربي، وثقلها واضح في مختلف السياسات، فضلاً عن التأثيرات الخارجية المتصلة بها، وربما أيضاً للحدّ من غلوّ النزعات العرقية أو الطائفية، جعلها مدخلاً يُزَكِّيه العمل الديمقراطي والاعتراف بالتنوّع لِعَمَلِيَّتَيْن مهمتين: أولاهما تتصل بالدسترة اللغوية التي عولجت في التجربة المغربية بالخصوص بإنصاف أكبر، بحيث أصبحت إلى جانب العربية لغة رسمية للبلاد. وأما العملية الثانية فتتمثل فيما يمكن تسميته الإدماج، بحيث أصبحت التركيبة الأمازيغية جزءاً من المشهد العام، مع وجود بعض التحفّظات، وربما مظاهر البطء والتراخي، في جعل تلك التركيبة متساوية، رغم التأخّر التاريخي والارتباك الاجتماعي، إلى ما في المعالجة من شكوكٍ سياسيةٍ تجعل الدولة أكثر حرصاً على مراقبة ما قد يعكّر، في ظنها، صفو "مكوّنات اللحمة الوطنية" التي بلورتها شعوب المنطقة المغاربية عبر كفاحاتٍ متواصلة. ويبدو اليوم أنّ الحقيقة لم تكن في التاريخ وحده، بل في الإقرار بأن الديمقراطية والاعتراف بالحقوق الوطنية في إطار التعدّد الثقافي واللساني والاختيار السياسي الحرّ هو السبيل الممكن لضمان الاستقرار والتطوّر.