أمنية في أتون الحرب
هل يحقّ لك أن تتمنّى والموتُ يُحدق بك من كل الجهات، ويطلّ بشماتةٍ شاهرا منجله من كل الزوايا؟ لا يمكنك أن تفكّر سوى بلحظتك القادمة كيف ستكون. ولكني أتمنّى وأرجو أن تتحقّق أمنيتي، ولا أستطيع أن أتوقّف عن الأمنية.
في الأيام الأولى للحرب، وحين تعرّضت البناية التي نقطنها في شمال غزّة للقصف، خرجنا راكضين، ونحن نسابق الصاروخ بملابس البيت غير الساترة، تلك الملابس التي لم أكُن لأرتديها إلا في غرفة النوم، بغرض التخفّف لتخفيف الشعور بالحرّ، ومع انقطاع التيار الكهربائي، وهذه مشكلة يعاني منها سكّان قطاع غزّة منذ سنوات بعيدة من الحصار، وحيث لا يمكن استخدام وسائل تبريد أو تدفئة تعمل بالكهرباء.
هذه المرّة، وبينما كنّا نركض بهذه الملابس، وبدون أحذية أو حتى خِفاف منزلية، وعلى امتداد الشارع الطويل ما بين المجمّع السكني الذي نقيم في واحدة من بناياته، ووصولاً إلى الشارع الرئيسي الذي يُفضي إلى قلب المدينة، سمعتُ أصواتا نسائية متداخلة، وكلها تعني عبارة واحدة، وهي توقّفي لتحصلي على ثياب ساترة.
وهكذا لا أدري كم هو الفارق الزمني الذي ألقيت به نحوي ونحو ابنتيّ الشابتين بعض قطع الملابس طويلة الأكمام والأذيال، وانفجار الصاروخ الثاني خلفنا، ولكننا كنا قد أمسكنا بهذه القطع وكأننا نجيد لعب الكرة الطائرة كأمهر لاعبيها.
على رصيف الشارع الرئيسي المقابل، وحيث رأينا آثار الانفجار واللهب المتصاعد، كنّا ندسّ أجسامنا المرتعشة داخل تلك الملابس. وحين أصبحنا داخل أحد بيوت الجيران على بعدٍ ليس كثيرا، كنا ننظر إلى تلك الملابس التي سترت أجسادنا، فإذا هي ملابسُ قديمة وبالية، تخبرك عن فقر صاحباتها وضيق حالهن، ولكنها قبل ذلك تنسج وتسطّر أمام عينيك رسالة رائعة، جبلت حروفها بأصالة وشهامة وأحاسيس لا يمكن لكل مفردات اللغة أن تعبّر عنها.
أصبحت قطعة الملابس التي حصلت عليها في أثناء رحلة النجاة الأولى فوق جسدي ولم تفارقني أياما طويلة، فلما دسّت سيدة البيت الذي أوينا إليه خفّاً بالياً مصنوعاً من البلاستيك ومتآكل الحوافّ في قدمي، فرحت به ولم يعد يفارقني أيضا، وأضعُه فوق رأسي، حين أنام فتراتٍ متقطعةً تحسّباً لجولة هروبٍ جديدة.
في كل الأوقات التي كنتُ أتكوّر بها على نفسي، وأستمع إلى صوت قصف الصواريخ المبتعد والمقترب، كنت أتشمّم قطعة الملابس التي لا تتبع ذوقي ولا أعرف وجه صاحبتها، وأحاول أن أتخيّله، وأضع الانطباعات عنها مثل أنها سيّدة تكبُرني سنّاً، وقد تكون قد تجاوزت الستين بعامين، فهذه القطعة ترتديها نساء غزّة في هذه السن، وربما تكون مصابة بالسكّري، وتتعاطى حُقن الأنسولين، فهناك رائحة لم أخطئها تسلّلت إلى أنفي من بين خيوط النسيج، كما أنها تستخدم مسحوقا للغسيل من تلك المساحيق الرخيصة التي تُعدّ بطرق بدائية ويشتريها الفقراء، رغم المحاذير الصحية التي تنطلق ولا تتوقّف حولها.
بعد أيام، صرت في أحد بيوت الإيواء في جنوب القطاع، واستطعتُ الحصول على ملابس مناسبة من سوق شعبي بدأت بضاعته في النفاد، بسبب إقبال النازحين عليه، ولكني لم أتخلّ عن تلك القطعة ولم أبعدها عني، وصار لديّ أمنية أن ألتقي بصاحبتها. ومع جهد قليل في استرجاع أحداث ذلك اليوم، استطعت تحديد البيت الذي امتدّت منه تلك الأيادي النسوية والنداءات الطيبة المتضامنة.
كل يوم، أجدّد أمنيتي وأملي أنني سوف أعود إلى ذلك المكان وسأجد أصحابه، وإن لم يتوقف لديّ هاجس شبه مؤكّد أن فريق الإنقاذ قد رحل ونزح، وربما قد أصيب أو أصابه أكثر من ذلك، فلا شيء غير متوقّع وسط هذا الجنون. ولكن الأمنية تكبُر، والأمل يرسم أمام ناظريّ سيناريوهات متعدّدة لحال صاحبة تلك القطعة بالتحديد، والتي لا تُشبه مقاساتي، ولكن صاحبتها تشبه روحي وقلبي، وفي تفاؤلٍ حذر أراها حيّة تُرزق، وأننا سوف نلتقي، وسيكون بيننا صحبة وصداقة، وحياة مستلّة من بين أنياب الموت.