أميركا أضعف .. هامش حرية أكبر!

04 نوفمبر 2020
+ الخط -

بغض النظر عن هوية الفائز في انتخابات الرئاسة الأميركية (مع أن هذا مهم ويصنع فارقا كبيرا، نظرا للتغييرات الكبيرة التي ينطوي عليها)، فقد بات واضحا مدى الإعياء الذي أصاب الولايات المتحدة، وطاول قدرتها ورغبتها في الاضطلاع بأعباء الدور العالمي الذي لطالما تطلعت إليه نخب الساحل الشرقي منذ عام 1876، عندما حلت مكان بريطانيا، كأكبر اقتصاد في العالم. تبدو الولايات المتحدة اليوم، (حتى مع رئيس "ليبرالي" مثل جو بايدن)، في مزاج انعزالي وانسحابي، مدفوعا بإدراك النخب الأميركية، من اليمين واليسار، بمحدودية قدرة بلادهم على الاستمرار في إدارة شؤون العالم، كما ظلت تفعل، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في ظل أزمات داخلية باتت تهدّدها.

ستبقى الولايات المتحدة إلى حين القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى في العالم بناتج إجمالي قومي يساوي مجموع اقتصادات القوى الثلاث التي تليها (الصين واليابان وألمانيا)، وبإنفاق عسكري يساوي مجموع القوى العشر التي تأتي في الترتيب بعدها، لكن هذا لم يعد كافيا (وهو في الحقيقة لم يكن يوما كافيا بمعزل عن التحالفات التي صنعتها)، حتى تفرض الولايات المتحدة إرادتها دوليا. 

مع سبعة أساطيل عاملة موزعة في أركان الأرض الأربعة، تشمل 11 حاملة طائرات (تملك الصين اثنتين وروسيا واحدة فقط بالمقارنة)، تبقى الولايات المتحدة، بكل تأكيد، قادرة على الدفاع عن مصالحها السياسية والاقتصادية وحماية حلفائها بشروط، لكنها لن تدخل في المقابل، كما يبدو، في أي صراعاتٍ لا تمس جوهر هذه المصالح، وهذا تحديدا ما فهمته إيران من امتناع ترامب عن الرد على إسقاطها طائراته المسيرة (غلوبال هوك) باهظة الثمن، في يونيو/ حزيران 2019، (إلا إذا اعتبرنا تصفية قاسم سليماني ذلك الرد).

واقع الحال أن حدود قدرة الولايات المتحدة على فرض إراداتها على خصومها كانت دائما حاضرة بوجود أمثلة تمتد من فيتنام إلى أفغانستان والعراق. الجديد هو تلاشي قدرتها على ضبط حلفائها، وقد بدأ بعضهم يتفلت من قبضتها ويتصرّف باستقلالية عنها. ينطبق هذا على الحلفاء الأوروبيين، كما على إسرائيل، وتركيا ودول الخليج العربية. ففي شهر سبتمبر/ أيلول الماضي بدا مشهد المندوبة الأميركية في مجلس الأمن مثيرا للشفقة، وهي تنفرد برفع يدها في التصويت لصالح قرار قدّمته بنفسها لتمديد حظر السلاح على إيران، والذي انتهى في الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، بموجب الاتفاق النووي، بعدما رفض حلفاؤها الأوروبيون دعمها في ذلك. في إسرائيل، اضطر وزير الخارجية، مايك بومبيو، إلى القيام بزيارة طارئة للقاء بنيامين نتنياهو في ذروة تفشي وباء كورونا، في مايو/ أيار الماضي، لتحذيره من المضي في العقود التي وقعتها حكومته مع شركات صينية للاستثمار في قطاع الاتصالات، وفي بناء ميناءي حيفا وأشدود. الأمر نفسه ينطبق على الإمارات التي باتت علاقاتها مع الصين تثير قلقا كبيرا في واشنطن. أما الكويت فقد ارتقت بعلاقاتها مع بكين إلى درجة اضطرّتها إلى نفي تقارير عن توقيعها عام 2018 على عقود بمليارات الدولارات معها لاستثمار جزرها الشمالية الخمس. طلب ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، خلال وجوده في منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي في يونيو/ حزيران 2015 من الرئيس الروسي التدخل عسكريا في سورية، لمنع انتصار المعارضة (الإسلامية) وتهميش إيران تسبب بصدمةٍ كبيرةٍ لدى المؤسسة الاستخباراتية الأميركية، كما كشف الضابط السعودي المنشق سعد الجبري. حتى تركيا لم تعر اهتماما كبيرا لتهديدات واشنطن بمعاقبتها في حال إقدامها على شراء منظومة صواريخ إس 400 الروسية، ولم تكتف بذلك، بل أجرت، الشهر الماضي، تمرينات على كيفية إطلاقها، متجاهلة تحذيرات إدارة ترامب في هذا الخصوص.

ميل حلفاء واشنطن (دع جانبا الخصوم) إلى تجاهل مواقفها سوف يتناسب طردا مع انحسار الرغبة الأميركية في لعب دور قيادي مكلف على الساحة العالمية، وهو أمرٌ يرجّح أن يستمر ويتزايد خلال الفترة المقبلة، خصوصا بعدما كشفت الحملة الانتخابية عن انقسام لم تعرفه البلاد منذ أيام الحرب الأهلية، مترافقٍ بأزمة اقتصادية وصحية عارمة. سوف تكون أميركا مشغولة إذاً بنفسها خلال المرحلة المقبلة، هذا يعني هامش حرية أكبر للخصوم والحلفاء على الساحة الدولية، نأمل ألا يصل إلى حد الفوضى.

AA8F4D7D-04C2-4B96-A100-C49FC89BAEBA
مروان قبلان

كاتب وباحث سوري