أميركا وأزمة لجوء الأفغان
تحت وطأة الحرب المتصاعدة بين حركة طالبان وقوّات الحكومة الأفغانية، يضطر أفغان إلى النزوح، داخليًّا، وعشرات الآلاف غيرهم إلى اللجوء إلى تركيا، يحدُث ذلك، بعد إعلان "طالبان" سيطرتَها على ما يعادل 85% من مساحة البلاد، وبعد إعلانها سيطرتها على مدينة شيبرغان، عاصمة إقليم جوزجان، ثاني عاصمة لإقليم أفغاني تسقط في يدها، بعد مدينة زرنج عاصمة إقليم نيمروز التي سيطروا عليها الجمعة، (في السادس من شهر أغسطس/ آب الجاري)، ويحدث هذا اللجوء الواسع إِثْر تأكيد مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أنَّ قوَّات بلاده أكملت 95% من عملية الانسحاب العسكري منها، على أنْ يكتمل نهاية أغسطس/ آب الجاري.
وكشفت اللجنة الأفغانية المستقلَّة لحقوق الإنسان عن نزوح نحو مليون شخص، في الأشهر الثلاثة الأخيرة، وكانت وزارة اللاجئين الأفغانية قد أكَّدت أنّ الحرب أدَّت إلى نزوح أربعة ملايين شخص، في مختلف مناطق أفغانستان، خلال السنوات الماضية.
هذا، ولم تنقطع واشنطن عن الانخراط في هذا البلد المنكوب، فهي، إلى جانب الأمم المتحدة، تتعاون مع شركائها في المجال الإنساني لتقديم الدعم للمحتاجين.. وأخيرا، تعهَّدت وزارة الخارجية الأميركية بتقديم 266 مليون دولار، مساعدات جديدة لمساعدة المحتاجين، بمن في ذلك الملايين من النازحين داخليًّا. ومع أن هذه المساعدات والدعم الإنساني يندرجان في "القوة الناعمة"، الرديفة لـ "القوة الصلبة" العسكرية، وعلى الرغم من أن تلك الجهود، والدعم الذي يصبُّ في "قطاع التعليم، وفي مجال حقوق المرأة، والتخلِّي عن الإرهابيين"، غيرُ بعيدةٍ عن الاشتراطات المنسجمة مع الرؤية الأميركية، إلا أنها لا ترقى إلى مستوى الأزمة الإنسانية الخارجة عن النطاق.
كشفت اللجنة الأفغانية المستقلَّة لحقوق الإنسان عن نزوح نحو مليون شخص، في الأشهر الثلاثة الأخيرة
ويتحمّل الطرفان المتحاربان، (الحكومة وطالبان) المسؤولية المباشرة، ولكن الولايات المتحدة، بوصفها الدولة التي قوّضت نظام "طالبان" عام 2001، والتي دعمت بناء حكومة أفغانية موالية لها أخفقت في أنْ تمثّل النموذج الذي يستبسل الأفغان في الدفاع عنه، (على العكس؛ عرضت وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع لسكّان محليِّين يحيّيُون مسلَّحين من "طالبان" كانوا يجولون في شوارع مدينة زرنج، عاصمة ولاية نيمروز التي سقطت في أيديهم)، فأميركا تتحمَّل مسؤولية أخلاقية، وإنسانية عن هذه المأساة الإنسانية المستمرَّة والمتصاعدة.
وكانت وزارة الخارجية الأميركية قد أعلنت أنه "في ضوء ارتفاع مستويات العنف الذي تمارسه "طالبان"، تعمل الحكومة الأميركية على توفير فرصة لأفغان معيّنين، بمن فيهم أولئك الذين عملوا مع الولايات المتحدة، لإعادة توطينهم، كلاجئين في الولايات المتحدة". ولكن وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، أقرّ بأن الدخول إلى الولايات المتحدة لن يكون سهلًا على الأفغان المتضرِّرين، والذين يجب أن يصلوا إلى دولة ثالثة، قبل أن يتمكَّنوا من التقدم بطلب للحصول على وضع لاجئ إلى الولايات المتحدة، والشروع في عملية يمكن أن تستمرَّ أكثر من عام، بسبب تراكُم الأعمال والتدقيق الأمني الصارم، وقال إن "هذا صعب للغاية على الكثير من المستويات". فحتى هذا التعهُّد لهذه الفئة المحدودة من الأفغان الذين تعاونوا مع الولايات المتحدة لا نعرف إن كانت واشنطن ستفي به، أم لا، فقد سبق لها أنْ تخلّت عن أمثالهم في حروب سابقة لها، كما في فيتنام والعراق، كما جاء في أقوال جيم جونز، المحارب المخضرم في فيتنام لصحيفة ملتري تايمز: "المقارنة بين حرب فيتنام والحرب الأفغانية مقلقة.. كان لدينا الالتزام الأخلاقي بانتزاع أكبر عددٍ ممكن من الحلفاء، لكن بدلًا من ذلك، تخلَّينا عنهم لمصير مروِّع". وفي العراق، منحت الولايات المتحدة عددًا قليلًا من التأشيرات للمترجمين الفوريِّين وغيرهم، من الذين ساعدوا الجيش الأميركي هناك.
وصلت إلى الحكم طبقة حاكمة غير جاذبة يغلب عليها الفساد والضعف، وذلك كله برعاية ودعم أميركي
وحتى لو وفَت واشنطن باستقبال المتعاونين معها من الأفغان، فإنه غير كافٍ لإعفائها من المسؤولية الكبرى، في أزمة اللاجئين الأفغان من غير تلك "الفئات المعيَّنة" التي تعهَّدت واشنطن باستقبالهم، والذي لا يجدون مأوى ممَّا يهدِّد حياتهم؛ فيلجأون إلى الأراضي التركية؛ تركيا التي تفيض باللاجئين، حتى قبل تفاقُم الأوضاع في بلاد الأفغان، ونزوح عشرات آلاف منهم إليها، وهو ما يثقل عليها أحمالًا فوق طاقتها، فهي تحتضن أكثر من أربعة ملايين لاجئ من سورية والعراق وأفغانستان وإيران، ودول أخرى. وتفيد التقديرات، وَفْق صحيفة الغارديان البريطانية، بأن ما بين 500 و2000 يصلون إلى تركيا، كلَّ يوم، هذا الفيضان من المهاجرين الأفغان يلقى رفضًا وتنديدًا من حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي في تركيا، والمُعادي عداءً صريحًا للاجئين، إذ تعهَّد زعيمه كمال كيليجدار أوغلو بإعادتهم إلى بلادهم، إذا تولَّى حزبُه السلطة، وأميركا هكذا وجدت نفسها معفاة من المسؤولية، بتعهُّدات أقرب إلى الرمزية، بإيواء عددٍ ممن تعاونوا معها.
وكان مسؤولون أميركيون في إدارة بايدن قالوا إنهم يريدون انسحابًا مسؤولًا من أفغانستان، ولكن وصْفه بالمسؤول يعود غالبًا إلى الزاوية الأميركية والمصالح الأميركية، حتى لا تتضرَّر هيبة واشنطن، وحتى لا يبدو الانسحاب متسرِّعًا وانهزاميًّا، وليس بالنظر إلى نتائجه على أفغانستان، وشعبها. وتتحمَّل الولايات المتحدة التي غزت أفغانستان، بتحالف دولي قادته، بعد رفض حركة طالبان الحاكمة، آنذاك، تسليم زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، إليها، بعد اتهامه باعتداءات "11 سبتمبر"، في العام 2001، مسؤولية كبرى عن الأضرار البالغة التي لحقت بهذا البلد المنهَك أصلًا من الحروب الخارجية، ثم الداخلية؛ الأضرار التي طاولت أرواح مدنيِّين كثيرين، ودمّرت مرافق كثيرة، ثم بما لا يقلُّ عن ذلك، أدّت إلى وصول طبقة حاكمة غير جاذبة يغلب عليها الفساد والضعف، وذلك كله برعاية ودعم أميركي؛ فهل يتناسب حجم هذا التدمير والأضرار التي طاولت البلد كلَّه مع الدافع الذي قال بايدن إنه كان وراء الغزو، وهو تحقيق العدالة من أولئك الذين هاجموها في 11 سبتمبر؟
وغير بعيدٍ عن أزمة أفغانستان، تأتي أزمة العراق؛ اختارت أميركا، على تعاقُب إداراتها؛ بين جمهوريِّين وديمقراطيِّين، أنْ تتركه في حالة من الفشل العام، وتآكُل خطير في مقوِّمات الحياة الإنسانية الملحّة والحيوية، تحت طبقة سياسية لا تقلُّ استشراسًا في الفساد عن نظيرتها في أفغانستان، وأصبح يدور في حلْقة مفرغة من الأزمات والتبعية، وليس هذا وحسب، ولكن بدرجات وحشية من القمع، تمثَّل بعضُها في قتل متظاهرين أخرجهم القهرُ إلى الشوارع للمطالبة بوقف نزيف الفساد، وتحسين أوضاعهم المعيشية التي لم تعد تطاق.
يُترَك، الآن، عشرات الآلاف من المدنيِّين الفقراء والمرضى الأفغان الذين فرُّوا من جحيم المعارك والنيران، لمصائرهم
من الواضح أنَّ أميركا التي طالما نادت، وتنادي بمراعاة حقوق الإنسان، وخصوصًا في عهد إدارة بايدن الديمقراطية، تغلِّب، كثيرًا، أهدافها الإستراتيجية، وسلامة جنودها، على معالجة مخلَّفات غزوها والبنية السياسية التي تركتها وراءها في البلاد التي أحدثت فيها تغييرات بنيوية، كما في العراق، تحديدًا، حيث النظام الطائفي القائم على المحاصصة هو النافذ عمليًّا؛ فهل أميركا، في هذه الحالة أداة بناء؟ أم أداة هدم؟ لقد نجحت في إظهار جبروتها، وقدرتها العسكرية على التدمير، والغزو، ولكنها فشلت فشلًا ذريعًا، ولا مسؤولًا، في إرجاع الأوضاع، حتى إلى ما قبل الغزو.
قد تُلقي واشنطن بالمسؤولية على الطبقة الحاكمة، في كلٍّ من أفغانستان والعراق، ومع أن هذه الطبقة تتحمَّل جزءًا كبيرًا من المسؤولية، إلا أن واشنطن هي التي مكّنت لها، ويصعب تصديق أنها لم تكن تعرف طبيعة هذه القُوى والشخصيات التي ساعدت، أو قَبِلت بوصولها إلى الحكم والقرار. ربما يقال بأن أميركا ليست مسؤولة عن نجاح التحوُّل الديمقراطي في ذينك البلدين، وأنَّ الناس هناك، والنُّخُب الحزبية والثقافية لم تكن ناضجة لمثل هذا التحوّل، لكن ألم يكن ثمة منطقة (وسطى) بين الدمار والتحلُّل، وبين الديمقراطية، ألم يكن بالإمكان إرساء ضوابط في الحكم عامة، تحُول دون تفويض الفاسدين، مع مقاربات واقعية تتقاطع مع الثقافة السائدة في البلد المغزو؟
وبهذا، يُترَك، الآن، عشرات الآلاف من المدنيِّين الفقراء والمرضى الأفغان الذين فرُّوا من جحيم المعارك والنيران، إلى مصائرهم، عالقين بلا مأوى، وفي ظروف إنسانية شديدة القسوة؛ ليُضافوا إلى ملايين اللاجئين الذين سبقوهم من الفلسطينيين والسوريين، وغيرهم!