أم الدنيا والحفاة العراة ... أتعس المعارك
لا جديد، إذن، سوى أنّ سلة البذاءة وقلة القيمة والإسفاف الشوفيني تدحرجت من منصّات الفضاء الإلكتروني إلى افتتاحيات الصحف الحكومية الممهورة بأسماء رؤساء تحرير لم يسمع عنهم أو يقرأ لهم أحد من قبل.
لسانُك حصانك، هكذا علّمنا واحد من الأمثال الشعبية البليغة، وبقية المثل تقول "إن صنتَه صانك وإن أهنتَه أهانك". وبما أنّ الألسن السارحة في مراعي اللاقيمة واللامعنى قد انجرفت لتوجيه إهاناتٍ منحطّة إلى إخوة وأشقاء، فقد كان من الطبيعي أن تأتي الردود بالقدر نفسه من الحدّة، لنجد أنفسنا، في نهاية المطاف، أمام حالة من الهوان القومي، غير مسبوقةٍ في تاريخ مصر.
لأكثر من أسبوعين، ونحن محاصرون بغبار معركةٍ تمتزج فيها الشوفينية والعنصرية والبذاءة أحيانًا، تأتي تعبيرًا عن أزمة مكتومة بين النظام المصري وأنظمة عربية، ويدفع ثمنها الإنسان العربي، والتاريخ العربي، والقيم الأخلاقية التي تُخدش وتُركل بالأقدام وتصفع بالأقلام السائبة على منابر الإعلام.
أسبوعان من التراشق العنيف تُهان معه المفاهيم الوطنية والقومية والإنسانية، بعد أن انفتحت أبواب الردح والردح الآخر، في أتون معركةٍ غير محترمة، بدأت برسائل دبلوماسية بذيئة موّجهة عبر مقال نشر في أكثر من موقع، ثم سرعان ما تمّ حذفه، مخلّفًا وراءه سحابةً سوداء لم تنقشع.
"حفاة عراة، بدو متخلفون، شحاذون ومتسوّلون"، تلك هي أكثر المفردات استعمالًا في معركة المنتحرين حضاريًا، التي جرى تصديرُها إلى الجماهير، بفعل فاعلين يديرون خلافاتهم ويصفون حساباتهم على حساب المواطنين العاديين الذين وجدوا أنفسهم وقودًا للمعركة من دون أن يختاروا ذلك.
ما يجري هذه الأيام ليس مفاجئًا تمامًا، إلا في حدّته وجنونه وانحداره إلى مسافات بعيدة في قاع البذاءة والإسفاف، إذ شهدت السنوات التالية على الانقلاب العسكري في مصر حملات شنتها أسراب من الجراد الإلكتروني تسرح على شبكات التواصل الاجتماعي، وقطعان من الأصوات تمرح في الفضاء التلفزيوني، في إطار الحرب المجنونة على قطر، التي كانت عدّوًا ومصدرًا لكلّ الشرور في نظر تلك المليشيات، التي لم يتوّرعوا عن وصفها بجيش مصر الإلكتروني.
وسط كلّ هذا الغبار الكثيف، من المهم أن نذكر أنّ البذاءات التي طالت أشقاء عربًا ليست مصر مصدرها، وبالتالي لا تُحسب عليها، بل تحسب على هؤلاء الصغار التافهين الذين يلهون في خرائب الإعلام ومن يوّجهونهم. وعلى ذلك، فإنّ الردّ على هذه الإساءات لا ينبغي أن يكون موّجهًا لمجموع الشعب المصري، لأنه ليس طرفًا في هذا النوع من المعارك السخيفة.
والأمر كذلك، ليكن واضحًا في ذهن الأشقاء، أنّ ما نتحدّث عنه ونرصده ونشير إليه، ونتخفّى خجلاً منه، ليس هو مصر الحقيقية التي يعرفها كلّ مدركٍ في العالم، بل هو طوْر منعدم القيمة، منخفض القدر، حد الوضاعة، منها، وهو طورٌ لا علاقة له من بعيد أو قريب بما يعرفه العارفون عنها، ويحفظونه لها ... مع الأخذ في الاعتبار أنه للوصول إلى هذه النسخة الرخيصة من مصر الحقيقية، أنفقت أموال هائلة، وهدمت بيوت وصوامع ومعانٍ ومفاهيم وقيم محترمة عن طريق أنظمة عربية موّلت كلّ هذا الخراب بسخاء وأوْلته رعايتها.
باختصار، هذه معركةٌ لا ناقة للشعب العربي فيها ولا جمل، حيث تأتي برعاية أنظمةٍ مستبدّة تتصالح وتتخاصم على أشلاء الشعوب التي لا يجب أن تستدرج لهذا القاع المظلم، ومن ثم فكلّ ما تراه من إهانات متبادلة يخصّ أصحابه فقط.
في هذا أكرّر ما قلته سابقًا، عن المواطن المصري المحاصَر بمناخ خانق ومقبض من كلّ الاتجاهات، والذي يعتصره الحزن على وطنٍ كبير يتضاءل يوميًا، فإنه يدرك أنّ بعد الليل نهارًا. هكذا يقول لنا تاريخ الحضارات والشعوب، وهذا النهار سيتكوّن وينبلج من الداخل، على يد جيلٍ آخر، سيُداهم الجميع بوعيٍ مغاير، وحركة مختلفة عمّا هو سائد، والذي هو نهايات ظلال وصور باهتة، تخفت وتتلاشى سريعاً، إيذاناً بانبعاث مصر حقيقية، وأصلية، من تحت الركام، مصر متجدّدة، سلطة ومعارضة، لا تعرف هذا التعلّق الطفولي بطرف ثوب الخارج.
في هذا المناخ الهستيري، يبقى الاعتذار واجبًا لمصر الحقيقية ... وأكثر وجوباً عن بذاءاتٍ تصدُر عن الصغار في "مصر المزيّفة".