أنا وقطّتي
ثمّة منام أراه أحيانا: أنا أخرج من باب بيتٍ مفتوحٍ على بستانٍ أخضر، لكنني لا أمشي، بل أقفز قفزاتٍ طويلة وعالية، تشبه قفزات الأرنب، أشعر معها بخفّةٍ غريبةٍ، وأصل سريعا إلى المكان الذي أقصده، والذي لا أتذكّر ما هو، ذلك ليس سوى أضغاث أحلامٍ يحرّكها العقل الباطن وما يختزنه؛ لكن ليس المنام هو المهم فيما أريد قوله: لديّ قطّة بيضاء أربيها منذ فطمتها أمها، تعيش معي وحدي، هي أقرب إلى أن تكون شريكةً معي في المنزل، نتآنس بوجودنا معا، ونتحاور بلغةٍ خاصةٍ سيفهمها حتما من يعيش مع قطّة أو أي حيوانٍ مستأنس. أحيانا كثيرة، أقضي الوقت ألعب مع قطّتي، لعبة الغمّيضة أحيانا، لعبة الكرة. وأحيانا أخرى، تركض هي وأنا أركض خلفها. في هذه اللعبة تحديدا، أنتبه إلى أن قطّتي لا تركض كباقي القطط، هي تقفز قفزا كما الأرنب، كما أقفز في الحلم الذي أراه بين الفينة والأخرى.
يقول لي أصدقائي: إن سيوا، قطّتي، تشبهني جدا، لها طريقتي في المشي، ولها طباعي. تحب البشر وتستأنس بهم، لكنها تضع مسافة معهم، حتى معي تضع هذه المسافة، فهي لا تنام معي على السرير، ولا تجلس في حضني إلا ثوانيَ قليلة. الوحدة الطويلة جعلتني برّية الطباع، كما تقول صديقتي المقرّبة. صرت أشبه قطتي، لي بعض خصائصها، وصارت هي تشبهني في بعض خصائصي، قد تستغربون ذلك: تنام في مواعيد نومي، وتستيقظ معي. وحين أكون في مزاج سيئ، تدرك ذلك، وتقضي معظم وقتها مختبئة في مكانٍ ما. لا تخرج منه حتى لتأكل، أو حتى أناديها نداء اللعب، فتأتيني وهي تقفز قفزتي في المنام، قفزة الأرنب.
يقال لدينا في قرانا في الساحل السوري: إن "كل من على بابو بيشبه صحابو". يقصدون الحيوانات المستأنسة، من القطط والكلاب والحمير والبقر وغيرها من الحيوانات التي تعيش في القرى قريبةً من البشر، وتأخذ من طباعهم حتى لتصبح شبيهة بهم. يصل التشابه أحيانا إلى الصفات الشكلانية، لا أقصد الملامح طبعا، لكن هناك شيء ما لا يمكن تفسيره يجعلك تدرك أن هذا الحيوان يعيش لدى العائلة الفلانية، شيء ما خفي، يضع تلك الوصمة التي يمكن تسميتها وصمة التشابه، في الصفات وفي الشكل العام عموما. لدي صديقة تربي في بيتها خمس قطط ذكورا وإناثا، وفي الجميع شيء ما منها، يلاحظه كل من يزورها.
يعيدنا ذلك إلى نظرية داروين وتطور الإنسان، وهو ما تؤكده سلوكيات القردة التي ترصدها أبحاث العلماء بشكل متواصل في محاولةٍ لمراقبة آلية التطور تلك. إذ ثمّة من يقول إن الحيوانات المستأنسة، سيما القطط والكلاب هي في دورة تطوّرها، وما ذلك الاستئناس وتلقي صفات أصحابها إلا بدايات نحو التطوّر المقصود، والذي طبعا يحتاج ملايين السنين ربما ليكتمل، ما لم يكتشف العلم طفرةً ما تساعد على تسريع عملية التحوّل، وهو ما ليس مستبعدا، فالعلم يخطو خطواتٍ مهولةً في علم المجهول، تصيب البشر المؤمنين بالعلم بالارتباك، فما بالكم بمن يرفضون نظريات العلم والتطوّر، لأسبابٍ دينيةٍ وإيديولوجية.
وحسب العلماء أيضا، فإن تعابير الجبين ومنطقة العينين لدى الكلاب مشابهةٌ لحالتها لدى البشر. تعبّر الكلاب عن عواطفها بعينيها وبعضلات جبينها، ليس بحركة الذيل والأصوات فقط، بينما لا تملك القطط هذه الخاصية بعد. للقطط جبين أملس تماما، مشابه لجبين المرأة بعد عمليات التجميل، لا يمكن تحريك واحدة من عضلاته. كذلك تعابير عيون القطط قليلة (دهشة كسل تحفز)، تعبّر القطط بذيلها وتموّجات صوتها أكثر من باقي أعضاء جسمها الأخرى. يفسّر العلماء ذلك بأن تدجين الكلاب بدأ قبل تدجين القطط بحوالي عشرة آلاف عام. خلال هذه المدة، اكتسبت الكلاب صفاتٍ بشرية أضيفت إلى طبيعتها، بينما القطط ما زالت في طريقها إلى ذلك.
لا أخفيكم، حين أركض وراء قطّتي وأراها تقفز كأرنب، أستعيد منامي المتكرّر عن قفزي من باب بيتي بخفّة نادرة، أقول ربما كان أكثر عدلا أن يكون التطوّر معكوسا، أن يتم تدجين البشر لتصبح شبيهةً بحيواناتها لا العكس، فهذه المخلوقات أكثر رحمةً ورأفةً وطيبةً وبراءةً من البشر. إدراكها ذاتها والمحيط حولها بسيط وغير معقد، بينما إدراك البشر مبهم، ومعقد ومسيطر ومتملك ومعتدٍ على جميع المخلوقات، إدراك البشر صنع جمالا حتما، لكنه صنع من القباحة ما يدمّر كل أثر للجمال. لو كان الأمر لي، لتمنّيت لو أصبح قطّتي ذات يوم، بعينيها المدهوشتين وبالقفزة الأرنبية التي تميزها.