أنت وجثتك ملك ذئاب البلد
عشية استشهاد الطبيب المرموق، عصام العريان، في محبسه، كان عامل التمريض السابق، يوسف القعيد، والذي انتقل إلى عالم الكتابة الأدبية، ثم نال عضوية برلمان الدم بقرار تعيين من عبد الفتاح السيسي، كان يجلس في لقاء تلفزيوني يعدّد فيه مفاتن ما تسمى "انتخابات مجلس الشيوخ"، ويقول إنها أعادت الاعتبار لصورة الانتخابات في الأدب العربي والوجدان المصري. وكانت وصلة يمكن وصفها بأعمال "المومسة الثقافية"، تقوم على إسباغ قداسة على مشاهد انتخابات مبتذلة لم يحضرها أحد، ومن حضرها ذهب تحت التهديد بالعقوبات.
المشهدان: نفاق القعيد والموت المفجع لعصام العريان يلخصان الحالة المصرية، والمسافة بينهما هي المسافة بين الصورة الزائفة الكاذبة كما يصفها القعيد، والواقع الفعلي لمصر، المحبوسة في سجن سلطة تقتل معارضيها ثم تنكل بجثثهم.
"أقسى من الموت ارتعاش الموت في الشلو الذبيح" .. قالها الشاعر محمد عفيفي مطر الذي عاش تجربة الاعتقال والسجن والتعذيب، وقبل أن يرحل أودع شهادته عن سلخانات التعذيب داخل السجون في ديوان كامل. .. أظن لو أن الشاعر لا يزال بيننا، وقرأ أن السلطات المصرية رفضت تسليم جثمان النقابي والنائب البرلماني والسياسي عصام العريان إلى أسرته لكي تدفنه، وأبلغتها أن الجهات الأمنية ستدفنه بمعرفتها، لعرف أن هناك الأكثر قسوة من الأقسى من الموت.
الأبشع من وقائع سجن عصام العريان ظلمًا منذ سبع سنوات، وتعذيبه داخل السجن وحرمانه من العلاج، وانتهاك كرامته نفسيًا وجسديًا، كما أشار في صرخة استغاثةٍ أطلقها قبل ثلاث سنوات، وتركه وغيره من السجناء لوباء كورونا ينهشهم.. الأبشع من ذلك كله هو ذلك التوحش الذي يتجسّد في قرار النظام المصري عدم تسليم جثمانه لأسرته لكي تدفنه.
هذا تطور لافت في تحوّل الدول المصرية إلى مرعى لمجموعة من الذئاب الجائعة، يقودها الذئب الأكبر، وكأن أسطورة الفيلسوف أفلاطون التي يصوّر فيها الطاغية على هيئة ذئب تتحقق الآن، واقعًا معاشًا، حيث كان أفلاطون يفسّر تحول الطاغية إلى ذئبٍ في ضوء أسطورة قديمة تقول إن المرء إذا ما ذاق قطعة من لحم الإنسان ممتزجة بلحم قرابين مقدّسة أخرى فإنه حتمًا يتحول إلى ذئب.
الآن، يصر النظام الحاكم الذي تذوّق لحوم خصومه ودمائهم في مذبحة رابعة العدوية، على توجيه رسالة عشية الذكرى السابعة للجريمة مفادها: سنفترسكم أحياء وأمواتًا.. أنت وجثتك ملك لذئاب المدينة، ننهي حياتك وقتما نريد، وندفن جثتك أينما نشاء وكيف نشاء.
لقد تذوّق قطيع الذئاب لحوم البشر ممزوجة بقرابين التسلط المصنوعة في مطابخ الكهنة والشيوخ الفاسدين، ومثقفين وسياسيين، حين نفذوا مذبحة ميدان رابعة وأخواتها، وعرفوا طعم لحوم البشر بعد شوائها على لهيب ترسانة الأسلحة المجرمة دوليًا، كما عرفوا طعم التنكيل بالموتى والتمثيل بجثثهم، حين ساوموا أهالي شهداء المجزرة على القبول بشهادات وفاة مزورة، وإلا لن يتسلموا جثامينهم.
هذه المرة، وبعد سبع سنوات، لا مجال للتفاوض أو المساومة أو المقايضة "سندفن الجثة بمعرفتنا .. نحن نمتلك أجساد وأرواح المعارضين، ومعركتنا معهم لا تنتهي بموتهم". هذا لسان حال السلطة، وهي لا تجد غضاضة في رفض تسليم جثة الشهيد عصام العريان إلى عائلته.
تدرك سلطات عبد الفتاح السيسي جيدًا أن لا خطورة أمنية في حال تسليم الجثمان لعائلة العريان لتدفنه في مسقط رأسه، حيث لم يعد أحد يقوى علي التظاهر أو الاحتجاج، فما الذي يجعلها تخشى تسليم الجثمان إلا إذا كانت تخفي معالم جريمة أودت بحياة الشهيد، مثل إصابته بفيروس كورونا في ظل ظروفٍ صحيةٍ متدنية داخل السجون يتحدّث عنها العالم كله؟
رواية الكورونا التي تتناقلها الألسنة ليست مستبعدة على الإطلاق، غير أن الإمعان في إهانة الضحية في هذا التوقيت، ذكرى مجزرة رابعة، لا يخفى على أحد، ذلك أن قطيع الذئاب الحاكم لا يترك فرصةً تمر من دون أن يصفع فيها الضمير الإنساني، ويسخر من الموتى والأحياء، ويهين الدماء، وليس الإلحاح على إبراز مشاهد الطبل والزمر والرقص أمام لجان الانتخاب في الذكرى السابعة لمذابح فض الاعتصامات، سوى رسائل موجهة عنوانها: مستمرون في المقتلة.
في مثل هذا الوضع، من الطبيعي أن يموت عصام العريان وتسرق الدولة الذئبة جثته، لكي يحتل أمثال يوسف القعيد الشاشات، ليسجل مطالبه بزيادة الاعتقالات وجرعات التعذيب بحق "الجماعة الإرهابية".