أن يدين الانقلاب المصري الانقلاب السوداني
أي قراءة لا تأخذ العنصر الإسرائيلي في معادلة انقلاب الجنرال، عبد الفتاح البرهان، على مخرجات الثورة السودانية 2019، مخلّة ومغلوطة، تمامًا كما أن افتراض أنه بالإمكان إسقاط هذا الانقلاب اعتمادًا على ضغوط اقتصادية أميركية هو ضرب من الوهم.
الشاهد أن أول ما تفعله الإدارات الأميركية، زرقاء اللون (ديمقراطية) أو حمراء (جمهورية) هو الإعلان عن قرار بقطع المساعدات المالية للنظم الانقلابية، لكن واقع الحال يقول إنه يتم قطع المساعدات حتى يشتدّ عود الانقلاب ويثبت أقدامه، ثم تُستأنف المساعدات، استجابة لأمرٍ واقع فرض نفسه بمرور الوقت.
لستُ في حاجةٍ هنا للتذكير بحدّوتة الإدارة الأميركية مع انقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر 2013، من باراك أوباما مرورًا بدونالد ترامب ، وانتهاء بالديمقراطي العجوز جو بايدن الذي كان الشرر يتطاير من عينيه إبّان السباق الرئاسي، متوعدًا الأنظمة الاستبدادية المعادية للديمقراطية بالفناء، بينما الواقع الفعلي يصرخ في الجميع معلنًا أن ما تريده تل أبيب سوف تقبل به واشنطن، حتى لو كانت لا تطيق بقاءه.
انقلاب عبد الفتاح البرهان وانفراده بالسلطة المطلقة في السودان، لم يكمل أسبوعه الأول من عمره، لكن الدقيقة لها أهميتها عند البرهان/ ومن وراءه من المؤيدين الصامتين الذين لم يبدوا رأيًا بعد، والذين يراهنون على ميكانيزمات الاعتراف التدريجي بالتقادم، وفي أذهانهم الحكاية المصرية البائسة، وما شهدته من تعليق المساعدة الأميركية، والعضوية بالاتحاد الإفريقي .. ثم تبخر كل شيء.
يمكن القول إن انقلاب البرهان صُنع في عنتيبي، حيث كان اللقاء بين جنرال المجلس الانتقالي السوداني، عبد الفتاح البرهان، ورئيس حكومة الاحتلال في ذلك الوقت (مطلع فبراير/ شباط 2020) الصهيوني بنيامين نتنياهو، وهو اللقاء الذي فضحته تل أبيب بتسريب أخباره لوسائل الإعلام، وأعلنت القوى المدنية السودانية المشاركة في السلطة تبرؤها منه وعدم علمها به، بل وكذّب مكتب رئيس الحكومة، عبد الله حمدوك، ادّعاء البرهان أنه تم بعلم حمدوك وموافقته.
بهذا اللقاء، كان التلميذ عبد الفتاح البرهان قد حفظ الدرس واستوعبه على يد الأستاذ عبد الفتاح السيسي، وعرف أن على من يريد السلطة أن يدفع مهرها إلى الكيان الصهيوني، وها هو قد دفعه في عنتيبي، معلنًا دخوله نادي التطبيع، الذي يضم السيسي والإمارات، وتوابعهما في محور الحرب على ثورات التغيير الديمقراطي، وفور رجوعه بدأ البرهان رحلة السير على خطى السيسي، وكما دوّنت، في ذلك الوقت، يمكن القول، من دون مبالغة، إن وادي النيل كله، بالإضافة إلى امتداده ناحية الغرب، ليبيا وتشاد، صار تحت الهيمنة الإسرائيلية، إذ يمكن لبنيامين نتنياهو أن يقود سيارته من الجنوب، عند إثيوبيا، ويمر بالسودان ومنه إلى تشاد ثم ليبيا وصولًا إلى مصر، ثم يمضي بعض الوقت متمتعًا بخدمة فاخرة من عبد الفتاح السيسي، قبل أن ينطلق بحرًا إلى قبرص واليونان، متفقدًا حقول الغاز التي تنازلت عنها مصر السيسية.
من هنا، يبدو مستغربًا إلى أقصى درجة أن يتوقع أحدٌ صدور موقف سلبي من مصر تحت حكم عبد الفتاح السيسي تجاه انقلاب عبد الفتاح البرهان في السودان. ليس، فقط، لاعتبارات المصلحة المشتركة بين الطرفين، ورعاتهما الإقليميين، وإنما كذلك لأن المنطق يقول إن فاقد الشيء لا يعطيه، كما أن محتكر الشيء لا يفرّط فيه، ومن ثم لا تستطيع أن تطلب من مستثمرٍ يحتكر سلعةً معينةً أن يندّد بترويج هذه السلعة وتدعيمها، أو يطالب بحظر بيعها.
على أن المنطق شيء وقوانين سوق الطغيان المصنوع إسرائيليًا، والمقبول على مضض أميركيًا، شيء آخر، إذ لا يتورّع هؤلاء عن التخلص من السلع التي انتهت صلاحيتها، أو خرجت حاملةً عيوبًا في الصناعة لا يمكن معالجتها، أو تكون كلفة إعدامها أقلّ من كلفة إصلاحها أو إعادة تأهيلها، غير أن ذلك يحدُث في النادر جدًا.