أهي داروينية أم ماذا بالضبط؟
ثمّة نهجٌ قائمٌ لدى إسرائيل والدول الداعمة لها في التعامل مع الضحايا في غزّة، يسير ويتبغدد منذ بدء الحرب. نهجٌ لا يتراجع أمام هول المجازر، ويخطو بغلوّ وصلافة على الأشلاء التي تُرفع من تحت الركام والجثث المكدسة طولاً وعرضاً بعضها إلى جانب بعض، وتلك الملقاة على قوارع الطرق، وكأنّها بقيّة حجر لا كائنات بشرية.
الأخطر من هذا النهج أو العقيدة المستترة التطبيع معه. الاستسلام له. القبول به كأنه أمرٌ واقعٌ لا مفرّ منه. قبل أن نمضي إلى يومياتنا التافهة، خادعين عقولنا بأنّ هؤلاء الضحايا أثمان حرب، والحرب صراعٌ، فيها الضحايا والغلبة للأقوى، وفي هذا الخنوع التقاء وإن كان غير مقصود مع هذا النهج.
الأكثر خطورة من الأمرين معاً؛ أي النهج والتطبيع معه، لوم القتيل على مقتله، والضحية على تجرّؤها في المقاومة واتخاذها العنف سبيلاً للتحرّر أوّل الأمر وكأنّ عدوّها ليس عنيفاً أبداً؛ ما بك يا رجل؟ اصفعها مرّة وعشراً إن شئت، لأنّها تجرّأت على الحُلم. ارفع سبّابتك ولوّحها في وجهها وألق عليها مواعظك، فعقلها أرعنٌ وخططها مَهلكة وإقدامها خرابٌ، ثمّ صادق على رواية قاتلها، وقبّل يده محنيًا، واطلب الصفح.
ما علينا...
يعكس هذا النهج المتّحدّث عنه هنا أشياء من الداروينية إن لم يكن هو بأمّ عينها؛ فهو يرى الفلسطينيين في غزّة، وفي كلّ فلسطين عموماً، كائنات دونية، وفناءها محتوماً. وفي أدمغتهم عطبٌ، ويراهم عبئًا على تقدّم الحضارة البشرية (أهل النور)؛ المحصورة في أتباع هذا النهج الذي يدّعي تفوّق عقله/ جنسه/ عرقه، على أمثال هذه الكائنات. تماماً كما كان ينظر المستعمِر إلى شعوب الهيريرو والناما والتسوتسي والهوتو والهنود الحمر واليوكي وغيرها، وكما نظر النازيون إلى بقية العوالم لاحقاً. وإلّا فكيف يُفسّر كلّ هذا الإمعان في القتل وغضّ البصر المتعمّد عن سقوط الضحايا، ومشاهد الإبادة الفظيعة. والتعامل مع التدمير المهول وقتل أناس، أطفالاً ونساءً ورجالاً، خسائر جانبية غير مرئية. أرواح هند ونور وداليا ومحمّد وعشرة آلاف طفل آخرين، ومثلهم ضعفان من الأمهات والبنات والرجال، تُزهق وكأنّها لم تكن. سلب حقّ كلّ هؤلاء في الحياة، يتحوّل وفق هذا النهج غير الأخلاقي إلى ضرورة. تصبح حياة هؤلاء نفسها جريمة. ولادتهم جريمة. وإماتتهم مصيرًا حتميًا.
ثمّة من يلوم القتيل على مقتله، والضحية على تجرّؤها في المقاومة واتخاذها العنف سبيلاً للتحرّر
عند كتابة هذا المقال، كان يمرّ معنا تقرير في صحيفة هآرتس منشورًا في قسم الطبخ (انتبهوا... قسم الطبخ!)، أيّ النظر إلى موضوعه أمر عادي، تفصيل يوميّ على هامش الحرب. إكسسوار. يتناول التقرير إعداد الجنود الإسرائيليين الطعام في مطابخ أصحاب البيوت الفلسطينية؛ باستخدام أدواتهم ومطيّباتهم وزيت زيتونهم، وتناول الطعام على موائدهم. ثم التغنّي بثقافة مطبخهم وكثرة المنكّهات والتوابل وزيت الزيتون الموجود في كلّ بيت احتلوه. وللأمانة، لم يذكُر التقرير إذا كان الجنود سيسرقون بعضاً من أشياء الفلسطينيين في البيوت، للاحتفاظ بها في المتاحف، كواجب حضاري من جنسهم المتفوّق في الحفاظ على الإرث الثقافي للشعب الأصلي. يجري تقديم مثل هذه الأعمال وغيرها من أعمال الحرب أنّها سلوكيات أخلاقية... هناك خِسةٌ لا تُحتمل، تعكس عقلًا استعماريًّا شموليًا لا يفلت منه أحد.
تكاد النظرة الإسرائيلية إلى حيوات الفلسطينيين في غزّة، وإلى أرضهم وأشيائهم، تتطابق مع نظرة الولايات المتحدة وحلفائها الداعمين حربها. وإذا لم يعبّروا عنها بالحرف كما فعل الإسرائيليون، فقد قالوها بصمتِهم وإغماض أعينهم. فهؤلاء لم يروا أيّاً من أعمال الإبادة أو جريمة حرب واحدة. رأوا مشهداً مغايراً تماماً، فيه جيش أخلاقي يُخبر الضحية قبل تنفيذ قرار إعدامها. رأوا ضحايا من جانب واحد، لكلّ منهم حياة وعائلة وأحباب، يحبّون الموسيقى والرقص والغناء ولهم أسماء. أمّا الضحايا الفلسطينيون فلم يأسفوا عليهم، أو تراهم يظنّون في عقلهم الباطني أنّ هؤلاء الضحايا أبناء الظلام حقًا، كارهون للحياة؟ هذه المواقف يصعُب تفسيرها بغير الداروينية.
تكاد النظرة الإسرائيلية إلى حيوات الفلسطينيين في غزة، وإلى أرضهم وأشيائهم، تتطابق مع نظرة الولايات المتحدة وحلفائها الداعمين حربها
قد يقول قائل إنّ في الأمر مبالغة، وإنّ إسقاط الداروينية الاجتماعية التي شرّعت الحروب الاستعمارية وإبادة الشعوب الأصلية ونهب خيراتها وتراثها على ما يحصل في غزّة في غير محلّه، وإنّ العصر غير عصر، وإنّ المستعمِر السابق أقرّ بذنبه واعتذر، وإنّ هذه الأفكار عار علينا كإنسانيين. وإنّ الإبادة حين وقعت في العصر الحديث عُلّقت المشانق لمرتكبيها.
بالنسبة لإسرائيل، لا مبالغة البتة في الموضوع، فهي كيان استعماري عقيدةً وأقوالاً وأفعالاً، وهذا النهج تحصيلٌ حاصل في سلوكياتها. أمّا في مواقف الدول الداعمة لها، فقد يصحّ هذا القول، حين لا يكون هؤلاء طرفًا في الحرب. وفي الحرب على غزّة، الداعمون لإسرائيل وأفعالها طرفٌ.
تعالوا نفتح بعض صفحات التاريخ الاستعماري القديم، ونستحضر مشهدًا من زمن القرن العشرين. سنختار ناميبيا، بما أنّها الدولة التي قطعت أخيرًا الطريق أمام مستعمِرها السابق ألمانيا، حين سارع لنجدة إسرائيل في القضية المرفوعة ضدّها أمام محكمة العدل الدولية من قبل جنوب أفريقيا. في بداية ذلك القرن، قرّرت قبائل الهيرورو وناما؛ السكّان الأصليين في ناميبيا، أن تتمرّد على المستعمر الألماني، بعدما ضاقت ذرعًا من استيلائه على أراضيها وقطيعها، فنصبت لجنوده الكمائن وباغتتهم بالهجمات، إلى أن قتلت منهم المئات. لم يتحمّل الفكر المتغطرس للمستعمر الألماني صفعة السكّان الأصليين، الذين ينظر إليهم ككائنات دونية لا تضاهيه عقلاً. أعراق مقدّرٌ لها الفشل، غير قادرة على العمل أو التقدّم، كيف تجرّأت عليه وهزّت صورته كقوّة متفوّقة؟ عندها قرّر الانتقام بإصدار قرار إبادة، فجاء نصّه على لسان القائد العسكري الألماني:
على شعب الهيرورو أن يترك الأرض. إذا لم يفعل، سأجبره بالرصاص والمدافع. داخل الحدود الألمانية (حدود مستعمراته!)، كلّ هيرورو، مع سلاح أو من دونه، مع ماشيته أو من دونها، سيُطلق النار عليه. لن أقبل بعد الآن النساء والأطفال. سأدفع بهم إلى شعبهم، أو سأُطلق النار عليهم وأُرديهم قتلى.
غزّة لحظة فارقة، ليس في فلسطين وحدها ولا في بلادنا العربية، بل في تاريخ إنسانيّتنا
نُفّذ القرار وأُبيد أكثر من سبعين في المئة من شعب الهيرورو.
بعد 119 عاماً، أعلنت إسرائيل، على لسان ساستها وعسكرييها، قرار الإبادة التالي ضدّ الفلسطينيين في غزّة: لا أبرياء في قطاع غزّة، السكّان هنا حيوانات وليسوا بشراً. تعاملوا معهم وفقًا لذلك. عليهم جميعاً أن يخلوا المنازل فوراً، وأن يتجهوا إلى الحدود. كلّ فلسطيني في غزّة، مع سلاح أو من دونه، مع عائلة أو من دونها، سيُطلق عليه الرصاص. لن نترك بعد الآن الأطفال والنساء. سنُسقط المنازل على رؤوسهم. ونرميهم بالصواريخ في أماكن نزوحهم وداخل المستشفيات، والمدارس، والمساجد، والكنائس. سنطلق النار على كلّ مسعف، داخل المستشفيات أو خارجها، كلّ صحافي في مرمى رصاصنا. سندفع بهم إلى خارج غزّة، ارحلوا إلى شعوبكم في مصر والأردن، أو نقتلكم. سنقطع عنهم المياه والغذاء والدواء ونحاصرهم بالأوبئة.
القرار يُنفّذ، وتعرفون بقية القصّة.
ربّما لن نقع اليوم على منظّرين لهذا النهج الدارويني، لكنّنا سنقع على مفكّرين منظّرين لحق المحتلّ في الدفاع عن نفسه، ثمّ حين تمضي الإبادة وتبلغ المنتهى، سيلتزمون صمت القبور. هناك رجلٌ أخمّنه طيّبًا، ولا أعلم إذا كان سيبقى على طيبته في عصرنا هذا، يقول، لا رجلَ عظيمٌ، إذا لم يملك تعاطفًا زائدًا، وعظمة الرجال تُقاس بمقدار تعاطفهم. وإنّ هذا الرجل (الذي يحمل تعاطفًا زائدًا) سيكون أعظم من يخدم بني جنسه.
ذكرنا في البداية أنّ الأخطر من هذا النهج هو التطبيع معه، وهذا ما لا يجب أن يكون، ولا أن يسمح به العظام من الرجال... أمّا أولئك المقرّعون على حافّة الطريق؛ الواعظون لمقاتلين أعمارهم من عمر الحصار لم يتحلّوا بنظرهم بالفروسية الكافية ليبرهنوا بها على أنّهم بشر، على حدّ تعبير سارتر وهو يتحدّث عن نظرة اليسار الأوروبي إلى عنف المستعمَرين في القرن الماضي، فإنّ شأنهم كشأن الحكّام الوطنيين وكلاء الاستعمار كما وصفهم فرانز فانون "قد بلغوا من تعوّدهم على احتقار المستعمر لهم، وعلى إصراره على اضطهادهم مهما كلف الأمر، أنهم ما إن يلاحظوا بادرة طيبة منه، وما إن يظهر لهم شيئًا من حسن الاستعداد، حتى يحيوا ذلك مدهوشين وحتى يباركوه فرحين".
غزّة لحظة فارقة، ليس في فلسطين وحدها ولا في بلادنا العربية، بل في تاريخ إنسانيّتنا.