الأنفاق أسلوباً في المقاومة
يقول عسكريٌّ إسرائيلي يقاتل في قطاع غزّة لإحدى الصحف "إننا نخوض قتالًا فوق الأرض وتحت الأرض". لا يقصد أنّه وجنود الاحتلال ينسلّون في الأنفاق تحت الأرض لخوض قتال مع عناصر المقاومة الفلسطينية؛ فلا هم جريئون، ولا هذا على لائحة الأوامر الموجّهة إليهم من الأساس، إذا سلّمنا بأنّ لدى قادتهم حدًّا أدنى من العقل يدفع بهم بعيدًا عن هذا الخيار. وإن كان ما نراه من حرب لا يدلّ كثيرًا على رؤية عسكرية، بقدر ما هو ردّ فعل أهوج وانتقامي مدفوعٌ بغريزة ثأر قبلية.
ما يقصده الرجل أنّ عناصر كتائب الشهيد عز الدين القسّام ورفاقهم يباغتونهم بهجمات من الأنفاق. يرمونهم بالنار ثمّ ينسحبون. ... يصف جنديّ إسرائيلي آخر اختفاء مقاتلي المقاومة بعد الهجوم، كخفّة الفئران في الحركة، يأتونهم من بين أيديهم ومن تحت أرجلهم ومن كلّ جانب، ثمّ يبرقون. يُنقل عن عسكريّ ثالث برتبة ضابط، في حروب سابقة، أنّ البحث عن أنفاق حركة حماس في قطاع غزّة كالبحث عن إبرة في كومة قشّ. صحيفة إسرائيلية تقول إنّ 80% من إصابات الجنود الإسرائيليين هي في المناطق السفلية (المسالك البولية).
لطالما حضرت الأنفاق تكتيكا قتاليا في الحروب القديمة والحديثة. استُعين بها لدكّ دفاعات العدوّ، واختراق التحصينات، والقلاع، والمدن. عرفناها في تاريخ الرومانيين والفرس وما قبلهما، كما في الحربين العالميتين وما بعدهما. شيّدتها واستخدمتها الجيوش النظامية كما المتمرّدون والثوّار. لكنّ المثير في أنفاق غزّة أنها عصرية، وفيها شيءٌ من العبقرية. تزاوج بين التكتيك القديم وكلّ ما هو حديث. وإذا جمعنا ما قيل عنها عقودا، منذ كان الفلسطينيّ في غزّة يحفرها في باطن الأرض لتهريب السلع في الثمانينيات، إلى ما قبل أيام، عندما كُشف عن نفقٍ بعمق يصل إلى 50 مترًا تحت الأرض، وعرض يتسّع لمرور شاحنة وأكثر، وفيه خطوط سكك حديدية، وما يحتاجه المقاتل للصمود والقتال معًا من تيار كهربائي، وأنظمة تهوية، وصرف صحيّ، واتصالات.
أنفاق هي "أشبه بمدينة تحت الأرض". فيها كلّ المقوّمات ليحيا فيها مقاتلون أشهرًا طوالًا
إذا جمعنا ما قيل حول هذه الأنفاق وقاطعناه بعضه مع بعض، وأضفنا إليه طبيعة الحرب غير المتكافئة التي تخوضها جماعة مقاومة ضدّ جيش نظاميّ، والعقيدة القتالية لهذه الجماعة، وبحثها الدائم عن سبل ردع للقوّة الصاروخية لعدوّها، فلنا أن نتخيّل سيناريو افتراضيًا سندّعي أنّ فيه الكثير من الحقيقة عن أنفاق هي "أشبه بمدينة تحت الأرض"، كما أتى على لسانٍ إسرائيلي. فيها كلّ المقوّمات ليحيا فيها مقاتلون أشهرًا طوالًا. تمتدّ على عمق 50 مترًا وأكثر، إذا أخذنا في الاعتبار أنّ سقف التوقّعات لعمق هذه المدينة قبل الإعلان أخيرا عن نفق بيت حانون لم يتجاوز 30 مترًا، فإذا بنفق يطلّ علينا متجاوزًا التوقعات بحوالى الضعفين إلّا قليلًا. إضافة إلى العمق المجهّز لخداع أجهزة الاستشعار الإسرائيلية، فإنّ جدران هذه المدينة وسماءها معزّزة بترسانة مسلّحة قادرة على مقاومة القصف والقنابل الثقيلة. يصحّ هذا كله إذا كان لدى فصائل غزّة تفكير استراتيجيّ وقدرة على التعلّم من دروس الحروب السابقة، وهي كذلك.
في هذه المدينة طرقٌ ووسائل نقل، وغرف، وقاعات واسعة لاستخداماتٍ متعدّدة كإعداد الطعام والتدريب، ومركز للتخطيط العسكري ومخازن أسلحة ومصنع صواريخ، وغرفة إعلامية ومستشفى وقاعات للنوم وأخرى لتناول الطعام، وخرائط كثيرة، وأنظمة اتصالات مستقلّة. لا ندري إذا كانت فيها مراكز للتسلية ومسرح، لكن الأكيد أن فيها مسجد للصلاة، بما أنّ سكّانها أصحاب عقيدة. وليست على مستوى واحد، بل متعدّدة الأعماق، وتتفرّع منها أنفاقٌ كثيرة؛ وهي أشبه بشبكة معقّدة محصّنة ضدّ السقوط، لا مركزَ واحد لها، وسقوط أيّ نفق منها يكون فرديًا. تبدأ من غزّة وربما لا تنتهي فيها.
توزّعت الأنفاق التي بناها الثوّار الشيوعيون في فيتنام (فيت كونغ) على أربعة مستويات، بلغ طولها مجتمعًة أكثر من 250 كيلومترًا، وتجاوز عمقها الـ15 مترًا. كان الثوّار يُمضون أغلب أوقاتهم تحت الأرض في أنفاق كو تشي. ولهذا جُهّزت بكامل الأمتعة من قاعات واسعة للنوم ومطابخ وصرف صحي وبئر مياه. وكان فيها أيضًا مستشفى ومسرح للترفيه وقاعات للتدريب، إضافة طبعًا إلى مخازن الأسلحة. في الرسوم الموجودة حاليًا في المتاحف، والتي يمكن تصفّحها عبر الإنترنت، تبدو تلك الأنفاق كمتاهة تضيق وتتسّع على عدّة مستويات، وتتضمّن أنفاقًا وهمية للتضليل، وأخرى تستخدم كمنصّات لإطلاق النار. المستوى الأوّل فيها دفاعي، حيث كانت تزرع الألغام وتنصب الفخاخ والثعابين والعقارب والعناكب السامة، فيما كانت الوطاويط تلعب دور مستشعر الحركة، فتبدأ بالخبيط واللبيط عند أيّ اقتحام للعدوّ.
استغرقت أنفاق غزّة عقودًا. بدأت في ثمانينيات القرن الماضي لأغراض التهريب بين القطاع ومصر
حفر الثوّار في فيتنام تلك الأنفاق بأيديهم طوال 20 عامًا ما بين 1955 حتى 1975. ومنها وفيها أيضًا خاضوا قتالًا ضاريًا مع الأميركيين والأستراليين وحلفائهم من الفيتناميين الجنوبيين، وكبّدوهم خسائر انتهت بالهزيمة. وُضعت خطط كثيرة للإجهاز عليها؛ فكان يُزجّ في داخلها بجنود يسمّون جرذان الأنفاق، لديهم ميزات محدّدة وتلقوا تدريبات خاصة، لكنهم كانوا يُسحبون بعدها إمّا قتلى أو مصابين عند المستوى الدفاعي. كما أُلقيت قنابل غاز فيها، وأُرسلت الكلاب إليها.
استغرقت أنفاق غزّة، في المقابل، عقودًا. بدأت في ثمانينيات القرن الماضي لأغراض التهريب بين القطاع ومصر، من سلع غذائية وأسلحة. نقلتها المقاومة في غزّة قبل 20 عامًا، وهذا على الأقلّ، إلى مستوى عسكريّ، كجزء من تكتيكات دفاعيّة وهجوميّة في الحرب، مع الحفاظ على دورها الاقتصادي كشريان حيوي للقطاع المحاصر. أولى الدلالات على دورها العسكري ظهرت في العام 2003 حين أعلن الجيش الإسرائيلي عن اكتشاف نفق بطول 1.8 كيلومتر، يبدأ من غزّة ويمتدّ لـ300 متر داخل الأراضي المحتلة. وضعها الجيش الإسرائيلي في مقدّمة أهدافه بحرب 2014، فادّعى أنّه دمّر أكثر من 30 نفقًا تمتدّ إلى الأراضي المحتلة.
يُعتقد أنّ أنفاق غزّة تبلغ أكثر من خمسمائة كيلومتر طولًا. وإذا قسناها على مساحة القطاع التي تتجاوز الـ365 كيلومترًا مربّعًا، بطول 41 كيلومترًا من الشمال إلى الجنوب، وعرض لا يتجاوز الـ12 كيلومترًا، نصبح أمام شبكة ضخمة من الأنفاق على عدّة مستويات تحت الأرض.
بحسب التقديرات، فإنّ كلفة نفق واحد على عمق متوسّط لا يتجاوز 20 مترًا وطول لا يتجاوز ثلاثة كيلومترات قد تبلغ عشرة ملايين دولار
تحيط كتائب القسّام الأنفاق بكثير من الغموض والسرّية، وفي هذا عنصر قوّة إضافي لها؛ فلا شيء مُعلن منها سوى أنّها في صلب استراتيجيتها العسكرية، وأنّها أبعد ممّا تخيّلته إسرائيل، وأنّها عدّة المواجهة المقبلة وعتادها. تطلّب بناؤها، بحسب ما قيل عنها، نخبة من المهندسين من مختلف التخصّصات، وتقنيين وجيولوجيين، إضافة إلى البنّائين والمنقّبين، والكثير من الحيطة والحذر. وبحسب التقديرات المنشورة في الصحف، نقلًا عن مصادر إسرائيلية وأخرى فلسطينية، فإنّ كلفة نفق واحد على عمق متوسّط لا يتجاوز 20 مترًا وطول لا يتجاوز ثلاثة كيلومترات قد تبلغ عشرة ملايين دولار، ويتطلّب مئات الأطنان من الإسمنت المسلّح.
في مقابل هذا السيناريو المُهيب لأنفاق حركة حماس والمقاومة في غزّة، روّجت إسرائيل لوجود أنفاق أكبر شأنًا لحزب الله في لبنان، وسمّتها أرض الأنفاق. تمتد عشرات الكيلومترات، وتربط بين ثلاث مناطق رئيسة على امتداد لبنان؛ في القلب بيروت حيث القيادة المركزية للحزب، وشمالًا منطقة البقاع حيث قيادة العمليات اللوجستية، ثم منطقة الجنوب حيث المواقع الدفاعية. وفي هذه المناطق تنتشر 36 نقطة دفاعية متصّلة بأرض الأنفاق. يمكن للحزب، وفق الروايات الإسرائيلية، أن يحرّك جيشًا من القوّات بكامل عتاده عبر المناطق الثلاث بسرعة ويُسر.
مهما بلغت تلك الأنفاق من علوّ أو أوهمت، فإنّ الأكيد أنّ لها فعلها في الحروب الماضية والحاضرة والمقبلة
تدّعي الروايات نفسها أنّ كوريا الشمالية أعانت حزب الله على بناء جمهورية أنفاقه، لتأتي على شاكلة تلك التي بنتها منذ خمسينيات القرن الماضي. وتقارن بين الطبيعة الجبلية للكوريتين ومنطقة الجليل الأعلى وجنوب لبنان، لتدلّل على فرضية الدعم الكوري الشمالي وعملقة شبكة أنفاق حزب الله. وتستحضر أيضاً ما أعلنه الجيش الإسرائيلي (عام 2018) عن اكتشاف ستة أنفاق دفاعية لحزب الله تنتهي داخل الأراضي المحتلة، لترسم سيناريو لها يفوق أنفاق غزة متانة وحداثًة وسعًة، تبعًا لقدرات حزب الله المتفوّقة على حماس. وإذا صدّقنا بعض ما تدّعيه هذه الروايات، فإنّنا نكون أمام أنفاق تمتدّ على طول يتجاوز 225 كيلومترًا ومثله عرضًا. وإذا قسنا المتعرّجات والمتاهات والمستويات، فنحن نتحدّث هنا عن آلاف الكيلومترات. ولنا أن نتخيّل بعدها سيناريو افتراضيًا لتلك المدينة لا يقلّ شأنًا عمّا يُصوّر لأنفاق حماس، وتفوقها أضعافًا؛ فكلّه في علم الغيب واردٌ.
مهما بلغت تلك الأنفاق من علوّ أو أوهمت، فإنّ الأكيد أنّ لها فعلها في الحروب الماضية والحاضرة والمقبلة، فتلك المخطوطات والتقديرات والتقييمات الافتراضية التي تدور حولها تترك تأثيرها في الحرب النفسية التي تُخاض صفًا موازيًا مع قرقعة الرصاص، خصوصًا إذا أُحيطت بالغموض والسرّية، كما هو الحال مع أنفاق غزّة. فهي تترك العدوّ مرتبكًا في مواجهتها، ومعظم الخيارات التي طرحتها إسرائيل للتعامل مع خطرها دليل على ذلك؛ فهي إمّا غير منطقية كبناء جدار تحت الأرض وحفر أنفاق مضادّة لاعتراضها وضخّ مياه البحر فيها، أو بدائية ومجترّة كإلقاء قنابل غاز أو تفجيرها، وجميعها لا يرقى إلى مستوى ما نُسج حولها من حكايات، ناهيك عمّا ثبُت فشله في حروب قديمة. سؤال مشروعٌ يستدعي نفسه عند هذه النقطة، هل ستبذل حماس الغالي والنفيس على بناء أنفاق، وتكرّس لها الرجال للحفر والتخطيط والهندسة ليل نهار، وعلى مدى عقود، وتضعها في مقدّمة استراتيجيتها القتالية، وتسمّيها عنوانًا للمواجهة المقبلة وسبيل نجاتها، دون تعزيز مناعتها من الأخطار؟ جوابٌ مشروعٌ أيضًا، لا.
إضافة إلى الارتباك في التعامل مع خطرها، يُحسب في ميزان الحرب النفسية للأنفاق ما تبثه من رعب في القاعدة الجماهيرية لإسرائيل
إضافة إلى الارتباك في التعامل مع خطرها، يُحسب في ميزان الحرب النفسية للأنفاق ما تبثه من رعب في القاعدة الجماهيرية لإسرائيل، خصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار فرضيات تمدّدها تحت الأرض إلى داخل الأراضي المحتلّة.
لتكتيك الأنفاق أيضًا ميّزات قتالية قد لا يضاهيها تكتيك آخر، تتيح لها قلب المعادلة أحيانًا كثيرة في الحروب غير المتكافئة، والمبادرة إلى شنّ هجمات في مناطق سيطرة العدوّ، وهو ما حصل فعلًا عند أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في عام 2006 في موقع عسكري إسرائيلي خارج حدود غزّة، وأيضًا ما جرى في عملية 7 أكتوبر/ تشرين الأول. وحتى لو لم تُعلنها أيّ جهة بعد، لكن الفيديو الذي نشرته كتائب القسّام بعد اكتشاف نفق بيت حانون، فيه قولٌ صريحٌ عن دور النفق في شنّ الهجوم.
تعزّز الأنفاق أيضاً قدرة المقاومة على الصمود في حرب النفس الطويل وإعادة رصّ الصفوف، ومنع الحسم وفتح الحرب على كلّ احتمال. يمكن قراءة هذه الميزات في المعارك الجارية حاليًا في شوارع غزّة، حيث تمكّن عناصر المقاومة من شنّ هجمات مباغتة وتحقيق إصابات نوعية، ثم الاختفاء كالأشباح سالمين. كما يشي توثيق بعض الهجمات في الفيديو واستغلالها في الحملة الإعلامية بشيء من الأريحية في التحرّك، لا يمكن أن توفّره إلا قوّة ما غير مرئية في السماء، أو تحت الأرض. وكلمة الفصل الأخيرة عن الأنفاق أنّ هذا الأسلوب وما أُضيف إليه، ونتائجه التي نلمسها في المعارك، تعكس فرادة العقل البشريّ وعبقريته في الابتكار، حين تكون قضية أرضه وأهله وشعبه ونفسه على المحكّ.