أولئك البدون في رواية كويتيّة
عندما يقول الروائي الكويتي عبد الله الحسيني (24 عاماً)، في محاورة برنامج "ضفاف" في تلفزيون "العربي 2" معه، إن السؤال الأول للرواية في بلده منذ عقدين تقريباً متعلقٌ بالهويّة، لأن هناك أزمةً في تعريفها، وأن هذا موضوع حسّاس، وسؤال ملح، لأنه عن علاقتنا بأنفسنا، عندما يقول هذا، لنا أن نقلق ونغتبط معاً: نقلق لأن ثمّة أزمةً كهذه في مجتمعٍ عربيٍّ متمدّن، يتوفّر على مستوىً ملحوظ من اليُسر (والرفاه ربما)، تؤشّر إلى أن ثمّة تقدّماً في العُمران والإدارة والتنمية يتوازى مع الرجوع القهقرى إلى زوايا مناطقيّة، وإلى التباسٍ هويّاتي، وإلى المذهبي أو الطائفي، من دون قدرةٍ لدى المجتمع ونخبه على بناء معادلةٍ تُخرجه من مسألة الأزمة. أما الغبطةُ فلأن المدوّنة الروائيّة في الكويت تكترث بالسؤال الاجتماعي المطروح، وتلتقط تعبيراتِه، وتحاول أن تبني مقترحاتها الجماليّة والسرديّة في تصوير التمثيلات التي تعكس حضوراً لتلك المسمّاة أزمةً بشأن الهويّة.
حاور البرنامج التلفزيوني الرائق عبد الله الحسيني بمناسبة نيْل روايته الثانية "باقي الوشم" (منشورات تكوين، الكويت، 2022)، الثلاثاء الماضي، جائزة غسّان كنفاني للرواية العربية في دورتها الثالثة، والتي تنظّمها وزارة الثقافة الفلسطينية، وترأَس لجنة التحكيم الروائي والناقد المغربي، أحمد المديني، الذي وصف العمل بأنه "قطعةٌ من جمال وأحشاء مجتمع وإنسانية جريحة". وعلى ما قد يكون في هذا القول من إسرافٍ في الثناء على روايةٍ تستحقّ الثناء، فإنها نابهةٌ الإشارة فيه إلى إنسانيةٍ جريحةٍ في الذي سرَده الحسيني. أظنّه الجرحُ الذي يسكُن في الأسرة الفقيرة، المقيمة في هامش المجتمع (الكويتي)، هو الثيمة المركزية في النص. ولمّا ابتعد المتحدّثون عن الرواية، ومنهم عضو لجنة التحكيم، رياض كامل الذي قال عن سبكٍ جيّدٍ متماسكٍ فيها، عن التأشير المباشر إلى صفة عائلة "باقي الوشم" إنها من "البدون" (عديمي الجنسية)، فإنه ليس مطلوباً منهم هذا. أمّا كلام الكاتب نفسِه عن الرواية (بالمطلق) إنها مقاومة "القهر والعجز والفشل والاستلاب، ومقاومة الهامش والرواية الرسمية"، فإنّ الإيحاء هنا يعيّن هذا.
ليست رواية عبد الله الحسيني من نصوص السرد الذي ينهضُ أساساً على الحكاية، وإنما تتلملم فيها حكاياتٌ صُغرى لينبني منها معمارٌ معنيٌّ بتصوير فضاءٍ اجتماعيٍّ ومكانيٍّ ضيّق في زمن التواصل بـ"الفايبر"، لكنه منشدٌّ إلى زمنٍ ماضٍ غير ظاهر. والسارد في هذا كله عليم، يحكي ويحكي، فمن منظورِه (واسمُه عبد الله!) عن والديه وإخوانه وجيرانه، والأهم عن جدّته، ويختار أن يكون اسمُها حمضة السحاب، نتعرّف إلى همومٍ صُغرى وكبرى، يومية وأخرى قارّة، لهذه الأسرة، في علاقتها بمحيطها العام، وبالدوائر الرسمية، من دون إفراطٍ يغلّب حسّاً مأساوياً أو فجائعية مفتعلة، فالترميز المشفّر في سطور قليلة (الرواية كلها 75 صفحة!)، وبالتكثيف الظاهر، هو ما ينطق بمقولة الرواية عن "إنسانيةٍ جريحة" (على ما قال المديني)، وعن مقاومة الهامش (على ما قال عبد الله الحسيني).
البردُ الذي تُغالبه الجدّة ذات الاسم الممتلئ إيحاءً (وأبعاداً؟) مرفوقاً بانتظارها المديد الربيع، يوحيان بالمنطوق العام لروايةٍ مقلقة، وهما مركزيّان في مسار السرد الذي نقع فيه على مكابدة الأسرة في تدبير شؤونها، وهي التي تصادف صعوباتٍ في العمل، وفي الحصول على شهادات الدراسة والميلاد والوفاة، وفي استدعاء الماضي التائه الذي يخصّ الأسرة. تتوفّى الجدّة في مختتم الرواية، فنقرأ الحفيد السارد يقول: "اكتفى أبي ببلاغ الوفاة وإذن الدفن. لم يتمكّن من استخراج شهادة وفاة لها، كان عليه أن يجدّد الإثباتات لأجل ذلك. ظلّ يبكي. كما قال محمّد. يمسح دموعَه بغترته، وكلّما كلّمه أحدٌ بكى، فتولّى عنه محمّد بقية الإجراءات". يرافق القارئ حمضة السحاب منذ السطور الأولى التي تُنبئنا عن بيت الأسرة الذي بقي على حاله منذ بنته الحكومة في أواخر السبعينيات، و"طلاؤه الأصفر قد تقشّر". ... من مدخلٍ كهذا، نذهب في مسار من حكي يضجّ بمحكياتٍ وتفاصيل، على بساطةٍ عالية، غير أنها تقول ما تقول عن قضيةٍ في الكويت لم تلق بعد الحلّ الاجتماعي والسياسي، ثم ننتهي إلى وفاة الجدّة "وقد تركَت كل شيءٍ على حالِه ومضت" (لنسأل نحن قرّاء الرواية إذن: متى يتغيّر حال البدون إذن؟). لم يترُكنا السارد عبد الله (هل هو الكاتب عبد الله الحسيني؟)، على حالنا، ودَّعنا بالجملة التي أقفل بها كل حكيه الممتدّ "ربما كان الربيع في الغد أو بعد الغد".