أين اختفى اليسار التونسي؟
عندما ظهرت قوى اليسار في تونس، بتشكيلاتها المختلفة، كان رهانها الأساسي النضال من أجل الطبقات الأشد فقرا وبؤسا، وكانت اللافتة الاجتماعية هي الأكثر حضورا، أمر يمكن استنتاجه بيسر من خلال خطاب القوى اليسارية منذ ستينيات القرن الماضي، وصولا إلى بدايات القرن الجديد، فما الذي جعل اليسار الاجتماعي في تونس يتراجع وينكمش سياسيا وإعلاميا، إلى حد مبالغة بعضهم من خلال التأكيد على تلاشيه؟
بدايةً، لا يمكن أن ننفي حضور قوى اليسار في تونس وتأثيرها الثقافي ووجودها في الجامعات والنقابات، وقد كانت هي الصوت الأعلى والأشد وقعا في معارضة نظام الحبيب بورقيبة طوال عقدي الستينيات والسبعينيات، وكانت، في الغالب الأعم، تركز على قضايا بناء الدولة الوطنية والتحرّر من هيمنة الاستعمار، وصولا إلى نظام اقتصادي واجتماعي أكثر عدلا من خلال بناء نظام اشتراكي، ينفي كل أشكال الاستغلال الرأسمالي.
كانت لهذا الخطاب جاذبيته في صفوف الطلبة والمثقفين، بالإضافة إلى حضور نسبي ضمن النقابات، على الرغم من أن اليسار فشل فعليا في التمدّد ضمن مجاله الحيوي، أعني الطبقة العاملة التي كان يبشر بخلاصها من الاستغلال، وحالة الاستلاب الاقتصادي التي تعانيها. غير أن اليسار ظل يعاني، وعلى امتداد تاريخه، من ظاهرتين: أولاهما حالة الفصائلية المفرطة والتشظي الحزبي الذي جعل الساحة تكتظ بأحزاب بمسميات يسارية من دون قواعد. والمشكل الثاني عجزه عن إيجاد تصور واضح لقضية الهوية والموقف من الدين، وهو ما كان دوما خاصرة رخوة يهاجمه من خلالها خصومه، خصوصا من المنضوين تحت التيارات الإسلامية والقومية.
في أثناء حكم الترويكا، تموقع اليسار ضمن حلف سياسي مع بقايا النظام السابق، بقيادة الرئيس الراحل الباجي السبسي
بعد الثورة، كان من الممكن أن يعيد اليسار التونسي التموقع وبناء ذاته، وأخذ موقع مؤثر في الساحة السياسية. وإذا كانت التيارات الإسلامية قد استفادت من مظلوميتها زمن الاستبداد لتكتسح الانتخابات الأولى (أكتوبر/ تشرين الأول 2011)، فيما استفادت قوى الثورة المضادّة وبقايا النظام السابق من فشل الأداء الحكومي للقادمين الجدد بعد الثورة، ليحصد الأغلبية في الانتخابات الثانية (أكتوبر 2014)، فقد كان من المؤمل أن ينال اليسار فرصته، ويفوز في الانتخابات الثالثة (أكتوبر 2019)، غير أن شيئا من هذا لم يحصل، بل فشلت القوة الحزبية الأساسية التي تمثل اليسار، أي الجبهة الشعبية، فشلت في دخول البرلمان، بل عجزت حتى عن الحفاظ على وحدتها التنظيمية.
المشهد السياسي التونسي اليوم، وفي غياب اليسار الاجتماعي، جعل الصراعات البرلمانية تنزاح نحو قضايا خلافية، مثل قضايا الهوية، ولم يعد هناك طرح مغاير في المجال الاقتصادي، فمنوال التنمية التونسي ما زال هو ذاته متوارثا منذ زمن حكم الرئيس السابق بن علي. وعلى الرغم من إدراك الجميع أن هذا النموذج الاقتصادي كان فاشلا، بل كان السبب المباشر لاندلاع الثورة التونسية في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، إلا أن الجميع لا يقدّم طرحا مختلفا، بل ظلت المسألة الاقتصادية مجالا غائبا عن أذهان قادة الأحزاب ممن يحرصون على التنازع على المواقع والوزارات.
تخلي جانب مهم من قيادات اليسار عن النضال الاجتماعي والتواصل مع الجماهير الشعبية
غير أنه لا يمكن أن ننفي أن اليسار ذاته قد لعب دورا في تدمير ذاته، من دون وعي منه، من خلال أدائه السياسي وسوء تقديره المرحلة، وربما اقتناعه بأنه مجرّد نخبةٍ لا يمكنها أن تكون بديلا للحكم. ففي الفترة 2011 - 2013، أي في أثناء حكم الترويكا، تموقع اليسار ضمن حلف سياسي مع بقايا النظام السابق، بقيادة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، ولم يسع إلى التمايز عن الأطراف المتصارعة، ويطرح نفسه بديلا لها. وما حصل أن السبسي، عندما وجد نفسه في السلطة، تحالف مع خصومه في حزب النهضة، تاركا قوى اليسار خارج المعادلة. وفي 2014 – 2019، كان في وسع قوى اليسار أن تعيد بناء ذاتها، وتقنع الشارع باختياراتها، في ظل فشل شريكي الحكم (حزب النهضة ونداء تونس) في تحقيق أي منجز اقتصادي، وفي ظل حالةٍ من عدم رضا الشارع، إلا أنه فشل مرة أخرى في استغلال الفرصة التاريخية التي أتيحت له، بل وانتهى به الأمر إلى مزيد من التشظي والانهيار، الأمر الذي أفضى إلى تحوّل صوت الناخب الباحث عن بدائل جديدة لتصب في خانة بدائل شعبوية، من دون برامج، ولا توجهات واضحة.
تخلي جانب مهم من قيادات اليسار عن النضال الاجتماعي والتواصل مع الجماهير الشعبية، كما يفترضه الخطاب اليساري الحقيقي، لتصبح مجرّد يسار ثقافي، يكتفي بالحديث عن الأمهات العازبات، وقضايا المثلية، ومناكفة الهوية العربية الإسلامية، قد أفقده أهم عامل مرجّح، وهو الدفاع عن المسحوقين اجتماعيا، وتبنّي مشاغل المعطّلين، وطرح بدائل اقتصادية جديدة، والحد من تغول الرأسمالية المتوحشة التي استفادت من حالة الانفلات، لتراكم مزيدا من الأرباح على حساب مصالح عموم الناس. ويظل موقع اليسار الاجتماعي شاغرا، في انتظار القوة التي ستملأه، والتي ستجد بالتأكيد حاضنة شعبية بانتظارها تحتاج إلى التأطير والتوجيه.