أيها الشعب الفظ كن رقيقًا مثل رئيسك الفذ
في الصباح، مهرجان "خمرة محمد صلاح" وطوفانٌ من التفتيش في عقيدة اللاعب الدولي، واستباحة مطلقة لما في نفسه ووجدانه، تذهب إلى التشكيك في سلامة إيمانه، وتتطرّف أكثر لاعتباره منفذًا أجندات تستهدف تدمير الشباب المسلم.
فظاظة ما بعدها فظاظة في النقد والتجريح وإهالة التراب على اللاعب وعلى مسيرته الناجحة .. اللاعب الذي اختار طواعية أن يطلق على مولودته الأولى اسم مكّة، واختار زوجة محجّبة، تعيش معه وتظهر معه في المحافل الدولية بحجابها، لأنه ردّ على سؤالٍ بشأن شرب الخمور، فقال إن نفسه لا تذهب إليها، بما يعني أنها تعاف شرب الخمر، لكن ذلك لم يكن كافيًا لكي ينهال السادة المحتسبون بمعاول الحفر في وجدانه، ويطلقوا أحكامهم الباتّة بشأن سلامة عقيدته، ثم لا يجدون غضاضةً في تجريده من جدارته وموهبته، مقارنةً بمحمد أبو تريكة، حتى تخيّلت أن أحدهم سوف يخرج علينا بحكم شرعي يبرّر به جلد اللاعب على آرائه، وهو يصيح "إنه أيضًا يلعب بالقدم اليسرى وليس من أصحاب اليمين".
في الصباح، شخصٌ كان قد قتل من المصريين بضعة آلاف، وسجن واعتقل وشرّد وأخفى قسريًا عشرات الآلاف، يختبئ وسط عشراتٍ من الصغار من ذوي الاحتياجات الخاصة، في مهرجان للحنان المصطنع والإنسانية المفرطة، يتحدّث فيه عن نفسه بوصفه ذا القلب الكبير الذي تعلم الرحمة من النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ويقبض على الميكروفون بيديه، لا يتركه من دون أن يطرح نفسه باعتباره رمز الاعتدال عدو الغلو والتطرّف.. مثال الرقّة والعذوبة واللين الكاره للقسوة والاستبداد، ثم لا يخلو الأمر، بالطبع، من وضع عباراتٍ أشدّ سخونةً على أفواه الصغار عن القائد الأب الإنسان النموذج الشجاع، الذي هو خالد بن الوليد هذا العصر في قوته وشجاعته.
وهل هناك أفضل من مناسباتٍ مصنوعةٍ بحرفية عالية للاحتفال بالفئات الأضعف في المجتمع، لكي يستحضر الزعيم كل طاقاته التمثيلية، ويتحشرج صوته ويذرف الدموع، بحرفيةٍ عالية، ويصبّ ينابيع حنانه على أطفال، يهتفون بحياته "بابا الزعيم" فيردّ صاحب القلب الحنون "يا حبايب قلب بابا".
ولكي يكتمل المشهد الرومانسي، لا بأس من إسناد أدوارٍ لفنانين يعلنون إلى الأمة أن "حنية القائد غير مصطنعة"؟. .. في اليوم التالي، تنقل الشاشات والمواقع الإلكترونية في جمهورية الزعيم الأفلاطوني، لحظة بلحظة، وقائع محاكمة المواطن الذي قتل جاره وفصل رأسه عن جسده، ومشى بها فخورًا في عرض الشارع .. وغد أنت، أيها المواطن، تقتل وتمثل بجثث جيرانك وتستبيح الطعن في إيمان الناس وأخلاقهم، حتى لو كانوا مثل لاعبٍ قال مشجعوه إنهم يتعرّفون على الإسلام ويحترمونه من خلال نموذج محمد صلاح.
إذن، هذا الزعيم الفذ، مثل الرسول في إنسانيته وعدله وتراحمه، ومثل خالد بن الوليد في جسارته وإقدامه، في مقابل الشعب الفظّ الذي يقتل ويسرق وينشر فيروس كورونا، ويعتدي على أراضي الدولة، ويخون محمد صلاح ويطعن في عقيدته ويسخر من موهبته.
تلك هي الصورة التي يرسمها الحاكم لنفسه، رحيمًا ومهذّبًا وسط محيط من المحكومين الأوغاد، قساة القلوب غلاظ المشاعر... صورة تساعده في رسمه مجموعات كبيرة ممن تشعر وكأنهم أنجزوا كل شيء فيما يتعلق بشؤون حياتهم. اطمأنوا على تعليم أبنائهم، وانتصروا على بطالتهم وفقرهم، وهزموا الاستبداد وأفرغوا سجونهم من مظلوميها، ونالوا حرياتهم وحقوقهم في انتخاب من يحكمهم ويدير حياتهم، ولم يبق لديهم من قضايا سوى رجم محمد صلاح، ووضعه في محرقة المقارنات مع محمد أبو تريكة.