11 نوفمبر 2024
أيُّ حياءٍ يخدشه "عمر"؟
عندما شاهدنا فيلم المخرج الفلسطيني، هاني أبو أسعد، "عمر" في مهرجان دبي السينمائي قبل عامين وشهرين، لم يُصب حياءُ أيٍّ منّا بأي خدش، أو أية أضرارٍ من أي نوع. كنّا في القاعة جمهوراً متنوعاً وذوي أمزجة وقناعات متعددة، ذكوراً وإناثاً. ولمّا مُنح الفيلم في مختتم المهرجان جائزتي أفضل فيلم روائي طويل وأحسن مخرج، رأى بعضنا أنه يستحق هذا التكريم، ورأى آخرون عيوباً في إخراجه وفي مبنى حكايته العام، لا تؤهله لذينك الفوزيْن. لم تكن قصة الحياء العام وخدشه في بال أحدٍ بشأن الفيلم. وأتذكّر إعجابي الشديد بأداء بطله، آدم بكري، وأظنه كان عنصر نجاحٍ مهمٍ للفيلم الذي بدت فيه حركة الكاميرا السريعة بين الأمكنة حاذقة، غير أنني لم أعتبر "عمر" تحفةً سينمائية، ولكنْ، سرّني ترشيحه لاحقاً في مسابقة جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي طويل. ولا يعني هذا المزاج الشخصي نزع هذا الفيلم من موقعه المتقدّم في السينما الفلسطينية.
مناسبة الإتيان، هنا، على الحياء العام الذي لم ينخدش في دبي، لمّا عُرض "عمر" هناك، أن جلسة اجتماعٍ طارئة عقدها مجلس بلدي باقة الغربية (بلدة فلسطينية في الأراضي المحتلة في 1948، سكانها 30 ألفاً)، واستدعي إليها المعلم في مدرسة ثانوية هناك، علي مواسي، تقرّر بعدها، وبعد جلسة استماع أخرى، بحضور معلمتيْن في المدرسة نفسها، فصل مواسي من عمله، وعدم السماح له بالتدريس في أي مدرسةٍ أخرى تتبع البلدية. وذلك كله لأن الرجل عرض فيلم "عمر" على تلاميذَ في المدرسة، فتسبّب، بحسب رئيس البلدية، يسري أبو مخ، وزملائه، بخدش الحياء العام في باقة الغربية، على ما أشاع أيضاً "نادي الهداية" في البلدة، وعلى ما أقنع به أنفسَهم أشخاصٌ تجرأوا على المعلم، واعتدوا عليه جسدياً في المدرسة نفسها، (حوكموا لاحقاً). ومن تفاصيل أخرى في هذه القصة أن المشهد الذي يبدو فيه بطل الفيلم عارياً من الخلف في أثناء تعذيب المخابرات الإسرائيلية له، شوّشه المعلم مواسي، فلم تلحظه عيون التلاميذ. الأمر الذي يضطرّك إلى السؤال: أيّ منطقة من الحياء العام، بالضبط، خدشها "عمر" في باقة الغربية؟
لم يُبالغ الناشط السياسي والمناضل، عضو الكنيست، باسل غطاس، في وصفه عقوبة مواسي تلك بأنها عار. وأصاب في مطلبه من أبو مخ التراجع عن قرار فصل معلم المدرسة، والاعتذار له. وجاء محموداً من نادٍ يتبع حزب التجمع الوطني الديمقراطي في مدينة سخنين (36 ألف نسمة) عرضه "عمر"، تأكيداً لرفض هذه الممارسة التي دانتها فاعلياتٌ وطنية فلسطينية غير قليلة، بل إن "التجمع" حيّا مواسي ودوره "الثقافي والتربوي الوطني المميز"، ورفض بشدة "أسلوب المحاكمات الميدانية والشعبية لأي شخص". ولا تزيّد في الزعم هنا إن الواقعة شديدة الخطورة في الحال الفلسطيني العام، إذا لم تتم إعادة الاعتبار للمعلم مواسي، ذلك أنها توضح أن المعركة جديّة وبالغة الأهمية بين منطق قوى تفترض نفسها وصيّةً على أخلاق الفلسطينيين وحيائهم العام وذائقتهم، وعلى تربية أبنائهم، ومنطق قوىً تنحاز إلى الحرية والجمال والإبداع والتفكير.
صحيح، إذن، ما كنّا نردّده، إبّان كنا طلاباً في الجامعات، في زمنٍ مضى إيقاعُه، وانحسر صداه، إن حريات الأوطان متلازمةٌ مع حريات مجتمعاتها. وكان علي مواسي محقاً في قوله إن قضيته هي قضية كل معلم، وكل طالب، وكل مؤسسة تربوية، وكل صاحب حق بالتعلّم والتثقّف، في فلسطين. والعجيب في أدمغة أبو مخ ورفاقه وجماعة نادي الهداية في باقة الغربية أنها لم تقع على غير ذلك المشهد، وربما على قبلةٍ خافتةٍ حييّة، في "عمر"، ولم يُشغل بالها ما اعتنى به هذا العمل السينمائي الفلسطيني في ما يتصل بأساليب المحتل الإسرائيلي في استضعافه الفلسطينيين، وعمله الاستخباري التخريبي بينهم. ... اضطرّني أولئك الغيارى على عفّة الفلسطينيين لمشاهدة الفيلم ثانيةً، لأختبر خدشاً قد يُصاب به حيائي الخاص، لكنه نجا، فيما اشتعل فيَّ غضبٌ ممزوجٌ بضحكٍ وأسى كثيريْن.