إخوان الأردن: مرحلة القتل الرحيم

24 فبراير 2022

إخوان مسلمون في مظاهرة في عمّان ضد انتهاكات إسرائيل في القدس (31/7/2015/فرانس برس)

+ الخط -

قبل سنوات من اندلاع ثورات الربيع العربي، أتيح لي حضور اجتماع على مستوى رفيع في الأردن ضم نخبة من قيادات البلد، وكان الموضوع الرئيس على طاولة البحث طريقة السيطرة على الإسلاميين في الأردن، وقد انقسم المتحدثون بين اتجاهين: أيد الأول طريقة التعامل الخشن مع التنظيم الرئيس، وهو الإخوان المسلمون، عبر حلّه وإخراجه عن القانون. وتبنى الثاني سياسة الخنق البطيء، وصولاً إلى الهدف النهائي، "التحجيم" إلى الحد الذي يمكن محاصرة التنظيم ليصبح هامشي التأثير في المجتمع، عبر حرمانه من كلّ منصّات التأثير ومؤسساته. ويبدو أنّ أنصار الاتجاه الثاني فازوا، وبدأت منذ ذلك الحين عملية "القتل البطيء"، أو قل الموت الرحيم للتنظيم، حتى إذا اندلعت ثورات الربيع، وقال قائل من الإسلاميين إنّهم "جاهزون لاستلام الحكم" بدأت عملية تسريع متشعبة الأذرع لمحاصرة التنظيم، وصولاً إلى حد إخراجه عن "الشرعية القانونية" واعتباره غير مرخص. وتخللت هذا الأمر إجراءات مكثفة وخشنة لحرمان التنظيم من أيّ وسيلة تواصل مؤسّسية مع الجمهور، وتحول حزب جبهة العمل الإسلامي من قسم في جماعة الإخوان المسلمين إلى كلّ التنظيم. وفجأة ما بين يوم وليلة، اختفت كلّ اللافتات التي تحمل اسم الجماعة عن تلك المباني التي تسمّى "شعب الإخوان" التي كانت منتشرة في طول البلاد وعرضها، وتموضع "الإخوان" خلف لافتة الحزب، وبدأت كلّ نشاطاتهم تتم تحت هذه اللافتة، وصارت "الجماعة" جزءاً من الحزب، بعدما كان الحزب جزءاً من الجماعة.

وأذكر أنّه قبل أن يتعرّض الإخوان المسلمون في الأردن لهذه العملية، كانت هناك اقتراحات داخل التنظيم بلجوء الجماعة إلى خيار الحلّ الطوعي، والاكتفاء بالحزب ذراعاً سياسية واجتماعية، وحتى دعوية، غير أنّ هذا الاقتراح لم يجد أذناً صاغية، حتى إذا شنّت الحكومات المتعاقبة حملتها على "الإخوان" صار ذلك الاقتراح المدفون خياراً استراتيجياً جبرياً، وإنْ بدا أنّ بعض "جيوب" التنظيم لم تسلّم بهذا الواقع، إذ لم تزل بعض مظاهر وجود التنظيم بادية للجمهور، فهناك منصبٌ للمراقب العام وبياناتٌ صحافية تصدر باسم التنظيم، ومجلس شورى ينتخب ويعقد اجتماعاته بعيداً عن عيون الإعلام، بل يمكن القول إنّ ثلثي صورة الجماعة نزلت تحت الأرض، ولم يبق منها ظاهراً غير الثلث أو أقل، وإن استمرّ الوضع على هذا النحو، فربما يتطوّر خيار الدولة إلى مرحلة إعلان التنظيم "رسمياً" وبشكل مباشر تنظيماً غير قانوني "قد" يُجرَّم كلّ من ينتسب إليه كما هو الحال في جلّ أو ربما كلّ البلاد العربية!

تنظيم الإخوان غير قابل للموت، ليس لأنّهم عباقرة وأفذاذ، ويمتلكون عصا سحرية، بل لأنّهم التعبير البسيط والقريب من قلوب سواد المسلمين

من المبرّرات التي يسوقها أصحاب القرار في الأردن في حملتهم هذه، أنّ الإخوان المسلمين "غيّروا فغيّرنا". وفي الواقع، وردت هذه العبارة على لسان مسؤول كبير، سألته عن سرّ التغير الحادّ في سياسات الدولة تجاه "الإخوان"، مشيراً في ذلك إلى موقف الجماعة في ذروة اشتعال ثورات الربيع، وقد قال لي ذلك المسؤول حينها (الآن في دار الحق) إنّ الدولة تلقت "عروضاً" من دول عربية معينة، تدفع بموجبها "أموالاً" وفيرة للأردن مقابل إعلانها تنظيم الإخوان المسلمين "خارجاً عن القانون "إلّا أنّ الحكومة رفضت العرض حينها، وآثرت اللجوء إلى سياسة الاحتواء الخشن، وصولاً إلى حشر التنظيم في قسم في الحزب، وحتى هذا الحزب لم يسلم من التضييق والحصار وقصقصة أجنحته بحيث يتحوّل من صقر محلّق إلى مجرد كتكوت في حظيرة الكتاكيت". وعلى الرغم من قسوة هذا الوصف الذي أستعيره من سياق سرد قاسٍ لأحد قادة الحركة، فإنّه يحمل قدراً كبيراً من الصحة، خصوصاً أنّ هاجس الحزب إياه سيطر على مجمل مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، وسيطر الخوف على "مهندسي" تلك اللجنة من "هيمنة" مفترضة للحزب بعد عشرة أعوام، حين يُصار إلى تشكيل حكومات برلمانية حزبية. ولعلّ من غرائب الأمور ما عقّب به السياسي المخضرم، عبد الرؤوف الروابدة (رئيس وزراء سابق)، على هذا الهاجس في محاضرةٍ ألقاها أخيراً، حين قال: "لا أعرف كيف توضع احتياطات في مواجهة الديمقراطية، الاحتياطات في كلّ دول العالم توضع في مواجهة الديكتاتورية"!

وبين يدي ما تقدم، لا بد من وقفات سريعة، قد تعين على فك رموز ما يجري في الأردن، والمنطقة العربية، وقد تعين على استشراف المستقبل، بما فيه مستقبل تنظيمات الإسلام الحركي، وفي بؤرتها تنظيم الإخوان المسلمين.

أولاً، يبدو أنّ قرار "تغييب" الإخوان المسلمين من ساحة العمل الجماهيري الفاعل عابر للحدود، حيث تلتقي رغبات نظم الحكم المحلية مع "توجيه" ورغبة دولية في إخراج الإسلاميين من موقع التأثير إلى غياهب التغييب، باعتبارهم القوة الأكثر تأثيراً وتنظيماً في رفض مشروع صهينة العرب، خصوصاً أنّ الإسلاميين لم يطرحوا أنفسهم بشكل جدي بديلاً لأنظمة الحكم، بل ركّزوا باستمرار على كونهم شريكاً في الوطن، وتناقضهم الجذري كان على الدوام مع التغريب والصهينة.

تمرّس "الإخوان" والإسلاميون عموماً، في مواجهة المحن، وهم يستخلصون العبر من كلّ واقعةٍ مهما كانت صعبة ومكلفة

ثانياً، تحكي دروس التاريخ أنّ تنظيم الإخوان غير قابل للموت، ليس لأنّهم عباقرة وأفذاذ، ويمتلكون عصا سحرية، بل لأنّهم التعبير البسيط والقريب من قلوب سواد المسلمين، فهم ليسوا تنظيماً فحسب، بل "فكرة" ولئن استطاعت السلطات تغييب التنظيم وقهره، إلّا أنّه يستحيل عليها قتل الفكرة. وبمعنى آخر، هم باقون ما بقي الإسلام، وهم قادرون على استيعاب المحن ومحاولات التغييب والقهر والاستئصال.

ثالثاً، خيارات "الإخوان" بوصفهم تنظيماً في كلّ البلاد التي تعرّضوا فيها للقمع، كانت النزول تحت الأرض، فلا سبيل لموت التنظيم، فهم خبراء ومتمرّسون في مواجهة الاختبارات القاسية، ولديهم الآلية المناسبة للاحتفاظ بالتنظيم، ولو بالحد الأدنى من الوجود.

رابعاً، تمرّس "الإخوان" والإسلاميون عموماً، في مواجهة المحن، وهم يستخلصون العبر من كلّ واقعةٍ مهما كانت صعبة ومكلفة، ونحسب أنّ كثرة تعرّضهم للمحن والاختبارات الصعبة تصنع جيلاً جديداً وشابّاً من "الإخوان" يستعصي على التغييب، وقد يحمل حلولاً ربما تكون مكلفة للأنظمة وللشعب عموماً، لأنّهم غير قابلين للاستسلام أو التسليم بقرار إخراجهم من الساحة، فهي ساحتهم والجمهور جمهورهم.

A99D1147-B045-41D9-BF62-AB547E776D3E
حلمي الأسمر

كاتب وصحافي من الأردن