إدانة الانتهاكات سلاحاً حربياً
قال المبعوث السابق للأمين العام للأمم المتّحدة، فولكر بيرتس، في إحاطة عن السودان أمام مجلس الأمن، في مايو/ أيار 2023، "دعاني كلّ من الطرفَين إلى إدانة تصرّفات الطرف الآخر. وأنا أدعو الطرفَين إلى إنهاء القتال والعودة إلى الحوار لما فيه مصلحة السودان وشعبه".
لم يتغيّر شيء بعد أكثر من عام، فقد ذكرت البعثة الدولية لتقصّي الحقائق، في تقريرها الصادر في الشهر الجاري (سبتمبر/ أيلول)، أنّ السلطات السودانية لا ترغب في التحقيق وملاحقة المتّهمين من غير قوات الدعم السريع. لهؤلاء تقام المحاكمات السريعة، ويُحكَم على مدنيين بالإعدام بتهمة التعاون، ويُعتقَل ويُعذَّب المتّهمون أحياناً حتّى الموت. أمّا التهم الموجّهة الى أيّ من منسوبي الجيش، فإنّها لا تُعامَل بجدّية. ربّما لذلك رفض الجيش تقرير بعثة تقصّي الحقائق، رغم الإدانة الواضحة والمتكرّرة فيه لانتهاكات "الدعم السريع" ووصفها بجرائم حرب.
دان التقرير أيضاً انتهاكات الجيش. كان هذا كافياً لاعتبار اللجنة جزءاً من مؤامرةٍ دوليةٍ على السودان؛ إنْ لم تكن كذلك فلماذا تدين الانتهاكات كلّها؟ لماذا لا تكتفي بإدانة طرفٍ واحدٍ؟ ... هكذا تُفكّر العقول التي تُقرّر شأن السودان. لا يهمّ إن كنتَ ضدّ الدعم السريع أو لا. المهمّ أن تكون مع الجيش، ويجب ألّا توجّه الإدانات للمُنتهِك في العموم، إنّما توجّه للخصم فقط. يستخدم الطرفان الانتهاكاتِ وسيلةَ كسب سياسي وأداةً حربية. يُطالب كلُّ طرفٍ المجتمع الدولي والمواطنين بإعلان الولاء والبراءة؛ الولاء لموقفه فقط، والبراءة من الخصم في المطلق. إدانة أيّ انتهاك يرتكبه الجيش تعني الخيانة والعمالة، وإدانة انتهاكات "الدعم السريع" تعني العنصرية والانتماء للحركة الإسلامية. لا أحد من طرفي الحرب يقبل إدانةَ ما يفعله، بل إنّ استخدامَ عبارةٍ مثل "طرفي الحرب" أصبحت تهمةً بالخيانة أيضاً، فالحرب طاردت حتّى اللغة لتقمعها.
عادة ما تُقسِّم الحروبُ الأهلية الشعوب بهذا العنف. ومن المعتاد أن يدان كلُّ من يطالب بوقف القتال. وحرب السودان ليست بدعة في الحروب، إنّما مشت في خطوات سابقاتها في العالم. لذلك تتحوّل الانتهاكات سلاحاً يراد به دوماً تبرير الحرب واستمرارها. فكيف تتوقّف الحرب وقد قتلونا؟ ... لا بدّ من الانتقام. تُحشَد الانتهاكات لا من أجل إدانتها ووقفها، إنّما لتبرير استمرار المعارك. هكذا تستمرّ الدائرة في أكل نفسها؛ يرفض طرفٌ وقفَ الحرب قبل أن ينتقم، أو قبل أن تكون يده هي العليا في الحرب، وحين يتحقّق له ذلك، يرفض الطرفُ الثاني بحثاً عن ذات الموقف الأفضل.
يذهب قادة السلطة في السودان إلى المحافل الدولية مطالبين بتصنيف "الدعم السريع" منظّمةً إرهابيةً، لا استنكاراً لجرائمها، إنّما استخداماً لها للحصول على الدعم الدولي. وتنشط قوات الدعم السريع في إدانة قصف الطيران للمدنيين، المدنيين ذاتهم الذين نجوا صدفةً من القتل بيد جنود "الدعم السريع"، الذين ذبحوا أهلَهم وسرقوا سيّاراتِهم ونهبوا منازلَهم، ثمّ احتلوا مناطقَهم. حين يموتون من القصف العشوائي للطيران تطالب "الدعم السريع" بإدانة ذلك وحظر الطيران، بينما تدمغ كلّ اتهام يطاولها بأنّه فبركات "الفلول" وشائعات "الإسلاميين".
يطارد المواطنون المتحمّسون الأخبار في المواقع الإعلامية. أيّ خبر جريمة لا بدّ أن يُغرَق بالسؤال: أين أنتم من جرائم الطرف الآخر؟ فإن أدان الخبر الطرفَين يُقال: أين أنتم من غزّة وجرائم الاحتلال الاسرائيلي؟ ... يقول نجيب محفوظ في رواية "الحرافيش": "والله ما كرهتم الفَتْوَنة إلّا لأنّها كانت عليكم". هكذا يدين أطراف الحرب السودانية الجرائم إذا ارتكبها الآخر فقط، لأنّه لا قيمة هنا للإنسان ولا لدمه ولا لماله، ولا للبلد الذي يتمزّق. ما يهمّ هو الانتصار بأيّ ثمن. وهو موقف عبّر عنه قادة الجيش بالقول الواضح، وتبنّته "الدعم السريع" بالجرم الفاضح، فيُعلِنُ قادة الجيش أنّهم مستعدّون للقتال لألف عام مهما كانت "التضحيات"، بينما تستمرّ "الدعم السريع" في تكبيد المواطنين هذه "التضحيات"، حتّى يخضعوا لحكمها.
لذلك، لا ينظر الطرفان لإدانة الانتهاكات إلّا باعتبارها ذخيرةً إضافيةً في ترسانة الحرب؛ الحرب التي يزعم طرفاها أنّها مفروضةٌ عليهما، ويخوضانها مُكرَهين (!)