إدلب... وحكاية الزيت والزيتون
نحن الآن في الثلث الأول من شهر ديسمبر/ كانون الأول، وأهلنا في إدلب، التي تُعرف بلقب "بلد الزيتون"، منهمكون في تنفيذ سلسلة الأعمال المتعلقة بتحويل حبّات الزيتون إلى زيت. هذه العملية الطويلة، المعقدة، تحولت، مع توالي السنين، إلى تراث، أو ثقافة عامة لا يستطيع أحدٌ أن يحتكرها، بدليل أنني، محسوبُكم، أستطيع أن أحكي لحضراتكم كيف تسير، بطريقتي الخاصة.
كان أهل بلدتي، معرّة مصرين، يخافون من حدوث قطاف مبكّر لكروم الزيتون، لأن هذا الإجراء يعرّض كروم الجيران الذين لَمَّا يقطفوا زيتونهم للسرقة، بذريعة "العفارة". العفارة عمل مشروع: يدخل بعض الأشخاص المتعيّشين إلى الكروم التي أُنجزت عملية قطافها، ويبحثون عن حبّاتٍ نسيها عمّال القِطاف، يجمعونها في أكياس صغيرة، ويأخذونها إلى الدكاكين، ويبيعونها بقليلٍ من المال.. ولكن ريق "المعفّر"، إذا وقعت عيناه على الأشجار غير المقطوفة المكتظة بالحبّ، لا بد أن يسيل، فتراه يتفقد المكان ببصره، فإنْ لم يجد أحداً، يسارع إلى سرقة كمية منها، يحملها ويهرب. ولمعالجة هذه المسألة، كان بعض ملاكي الكروم يذهبون إلى مدير الناحية، ويشكون له فوضى مواعيد القطاف، وما ينجم عنها من سرقات، فيُرسل رجلاً إلى الجامع الكبير، يصعد إلى المئذنة، ويعلن أن القطاف ممنوع، بأمر من مدير الناحية، قبل منتصف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني.
عملية قطاف الزيتون متعة لا يمكن لمن تذوّقها أن ينساها، فالمناخ، في الصباح الباكر، يكون بارداً، ومع حلول النهار يصبح دافئاً، وترتفع حرارة أجسام العمّال بسبب العمل الدؤوب، في "سَلْت" الأغصان المكتظة بحَبّ تتدرج ألوانُه بين مشتقات الأخضر والأحمر والأسود، وإسقاطها فوق سجاجيد مصنوعة من الخيش، يسمونها "القلوع"، ويَجمع الحَبَّ المسلوت عمالٌ آخرون، من النساء غالباً، وعندما تمتلئ الأكياس، تُنقل في تريلا تركتور، أو عربة ذات ثلاث عجلات "طريزينة" إلى المعصرة. ولكن وقت النهار لا يمضي كله في شغل متواصل، بل يقطعه تناول وجبتي الفطور، والغداء، أو شرب الشاي المغلية على الحطب، وعندما يأتي فريق "المطاربة"، المؤلف من طبال وزمار، يترك الجميع أشغالهم، وينخرطون بالدبكة، والنساء يُزغردن، والزمّار يصيح شيباااش، ويذكر اسم صاحب الكرم... ويأخذ الطبّال والزمّار قليلاً من الزيتون مقابل مبادرتهما، ويغادران، بينما يعود الآخرون للعمل بنشاط أكبر، ونفوس أكثر صفاء.
كان عصر الزيتون، في السابق، يتم بطريقة بدائية، ميكانيكية بحتة، يغسل الحَبُّ بماء ساخن، ويلقى في حفرة، تدور فوقه رحى يجرّها كديش، بشكلٍ دائري، حتى يتكسّر، ثم ينقل إلى حيث توجد التوربينات، وهي دوائر مشغولة من مواد ليفية، وتوضع بين كل توربينتين كمية من الزيتون المكسر، وحينما تكتمل، يجرى ضغطها، فينزل منها الزيت، ويجري إلى وعاء كبير، يسيل من الأسفل ليملأ الصفائح، التنكات... وأما الفضلات السائلة، فتجري من خلال فتحات إلى خارج المبنى، وهناك يمكن أن ترى "عفّارة" من نوع آخر، حيث يجلس أناسٌ القرفصاء، ويبللون أيديهم بطبقة الزيت الطافية على سطح الماء الجاري، وينقلونه إلى أوانٍ خاصة، ويسمّى زيت "المطراف"، الذي يصلح لصناعة الصابون.
حديث الناس، خلال المدّة التي تتعدّى شهرين، في الشتاء، يكون عن "القاطعيّة"، وهذه يقابلها في علم الاقتصاد مصطلح "الإنتاجية"، فيقول قائل: قَطَع معي كيس الزيتون نصف تنكة، أي حوالي تسعة كيلوات زيت، ويحمد ثانٍ ربّه على أن الموسم، هذه السنة، وفير، والقاطعية ممتازة، ثم يتشعّب الحديث إلى نسبة الحموضة والمرارة، وبها تتحدد جودة الزيت، فيقال: زيتنا أسيدُه ثلاث شحطات، يعني ممتاز، والعكس صحيح.
لا بد من الإشارة، هنا، إلى أن صناعة معاصر الزيتون تطوّرت، مع الزمن، إلى درجة أن كل شيء أصبح أتوماتيكياً. تصبّ الزيتون هنا، تأخذه من مكان آخر معبّأ في صفائح. ولا يوجد مَن يشغل باله بالسؤال: كيف حصل ذلك؟