إدمون المليح .. محمد برّادة
زرتُ الصديق الناقد المغربي، محمد برّادة، في منزله في حي أكدال في الرباط، ثلاث مرّات. في الأولى، بصحبة الصديق (الراحل) الشاعر محمد القيسي، وكان في دعوة الغداء الشهية الكاتب المغربي (الراحل)، إدمون عمران المليح. وفي الثانية، كنّا، إدمون وأنا، في المنزل، من دون صاحبه (!)، وقد طلب مني أن نلتقي هناك، لمّا رغبتُ بإجراء مقابلةٍ صحافيةٍ معه، نشرتُها في "الحياة" لاحقا، سرّه عنوانُها الرئيس "ما زال ضروريا أن نحمي أنفسنا من إسرائيل"، واستاءَ من إتيان عنوانها الفرعي على تعريفها له كاتبا يهوديا مغربيا، لمّا أكّد تاليا لي، وبإلحاح، ما أعرفه منه وعنه، إنه مغربيٌّ يهوديٌّ وليس العكس. وفي المرّة الثالثة، لمّا دعاني برّادة لنتحدّث كيفما اتفق في عصرية غداءٍ طيّبٍ في منزله، يومَها توقّعتُ أن يكون إدمون ثالثَنا، غير أنه لم يكن. ولكنّي، بعد نحو 30 عاما، أجدني، مجدّدا في صحبتهما، وأنا أقرأ كتاب "إدمون عمران المليح .. ثورة الذاكرة واستعادة الذات" (كرّاس المتوحد، مراكش، 2022)، والذي أصدره برّادة، وإنْ ضمّ، بالإضافة إلى مقالاتٍ ومطالعاتٍ له، مقالاتٍ وكتاباتٍ مترجمةً لإدمون نفسه ولآخرين عنه. .. وليست مناسبة الالتفات هنا إلى هذا الكتاب، المعزّز بصور للكاتب الراحل في 2010 عن 93 عاما، مع عائلته، مع زوجته ماري سيسيل، مع أصدقاء له، مع محمد برّادة متّعه الله بالصحة، ليست أنه وصل إليّ أخيرا، وإنما أنّ لها ضرورتَها، ونحن في ذكرى هزيمة 1967، استعادةُ الوعي الذي كان إدمون يقيم عليه، في ما يتعلّق بإسرائيل والصهيونية واليهودية، فضلا عن أهمية أن يبقى هذا الكاتب، الكبير حقّا، حاضرا في غضون البحث الدائم في متعة الأدب، ذلك أن لما نسجه من نصوص (أربع روايات، وكتب أخرى) قيمته الباقية في فضاء الأدب العربي، وإنْ توسّلت اللغة الفرنسية ونُقلَت إلى العربية. ولا مراء في القول إن صنيعا مهمّا بادر إليه محمد برّادة، لمّا كان أول من انشغل بإدمون وأدبه ونضاله، في الكتابة النقدية والصحافة الثقافية العربية، وواصل دورا طيبا في هذا.
نشر إدمون أولى رواياته "المجرى الثابت" (1980)، وهو في الستين. أعواما بعد مغادرته الحزب الشيوعي في بلاده، وإقامته منذ 1965 في فرنسا. يضيء برّادة في مقالاته التي يجمعها الكتاب على كثيرٍ يخصّ إدمون، من ذلك أن صاحبنا اختار معانقة مخاطر الكتابة والمنفى، بعد التخلّي عن السياسة (بمعناها الحزبي)، مراهنا على العثور على مفتاحٍ يسعفه على إدراك معنى الحياة وتعقيداتها المتشابكة. والكتابة عنده مغامرةٌ واستكشافٌ لمعرفةٍ لامادية. وكانت الكتابة عنده، وقد بلغ سنّ النضج والكهولة، استمرارا لمعركته النضالية من أجل مغربٍ جديدٍ وفلسطين محرّرة، ولكن من موقعٍ آخر وبأدواتٍ مختلفة. يخاطبه برّادة، عند رحيله، "أنتَ هو أنتَ: المغربي الذي لا يجعل من اختلاف الديانة سببا للنزاع والمشادّة، لأن الأسبقية عندك هي للعدالة وقيم الحرية والحقّ والجمال، ومن ثم مساندتك غير المشروطة للفلسطينيين، وإدانتك سياسة إسرائيل ومرجعيتها الصهيونية". ولا يغالي الناقد عندما يرى ترحيل المواطنين المغاربة "بالتحايل وغسل الدماغ" جُرح إدمون الذي لم يندملْ قط، وقد انشغلت رواياته بهذا الجُرح، وهو الذي عدّ نزوح مغاربة كثيرين إلى إسرائيل "كارثةً في التاريخ اليهودي"، على ما قال في مقابلتي معه، وعلى ما عبَّر عن هذه القناعة في مطالعاتٍ ومواقف كثيرة.
طيّبٌ أن الكتاب تضمّن مقالة نصير الفلسطينين والعرب، الإسباني خوان غويتسولو (التقاه صاحب هذه السطور في مقابلة صحافية في مراكش)، عن رواية لإدمون، وقد عدّه "شاهدا على اجتثاث ذويه الذين غُرّر بهم لمغادرة وطنهم العريق، والالتحاق بـ "الأرض الموعودة". أما نص إدمون نفسه "يهود مغاربة ومغاربة يهود"، وقد ترجمه المبارك الغروسي وعبد الغفار سويريجي (أشكرُه لإرساله الكتاب إليّ)، فمطالعةٌ فريدةٌ عميقةٌ، ضد الصهيونية، تُحاجِج برفيع المنطق وقوة الشواهد، وتُساجل، في الأثناء، الروائي الفرنسي، ألبير ميمي، ودعاواه الهشّة. يرى إدمون الهجرة الجماعية الكثيفة ليهود المغرب على مدى سنوات "مأساة صامتة". ينعت النزعة الصهيونية، وقد استطاعت أن تجد لها مستقرّا في النسيج المغربي اليهودي، بأنها مثل خلية سرطانية. ويجهر بأن الأيديولوجيا الصهيونية سطت على القيم الأساسية لليهودية وصادرتْها خدمةً لمصالحها ..
كثيرٌ ما هو غنيّ المعاني والمضامين في هذا الكتاب، أكّد لي المؤكّد عن جليسي في منزل محمد برّادة وحدَنا، وقد صيّرتنا مطالعة صفحاته القليلة ثلاثةً مجدّدا.