إسرائيل... جنوب لبنان بعد غزّة
أصبحت لدى إسرائيل الآن جبهاتٌ عسكريةٌ عديدةٌ نَشِطَة فعلياً، تتراوح شدّتها بين قوّية ومتوسّطة، فما زالت حربها داخل قطاع غزّة مُستمرّة، وهي أسخن الجبهات، إذ تحشد إسرائيل لها مُعظم قوّاتها، والجبهة التي تليها، هي تلك المحاذية لجنوب لبنان، فقد شهد جانبا الحدود قصفاً شبه يومي أدّى إلى إفراغ المستوطنات الإسرائيلية الحدودية من سكّانها، كما تسبّب في هجرة كثيرين من سكّان قرى الجنوب اللبناني. ورغم أنّ هذه الجبهة لم تهدأ، إلا أنّ شدّتها تعلو وتهبط على إيقاعاتٍ سياسيةٍ مُحدّدة، ويمكن عدّ ما يحدث عبر الحدود تمهيداً متصاعداً، مُرشّحاً لمزيد من السخونة بحسب تطوّر الأوضاع. ونستطيع عدّ سورية جبهةً أخرى، رغم أنّها، في الغالب، جبهةٌ من طرف واحد، فتنفّذ إسرائيل، بوتائر سريعة، هجماتٍ على أهداف فيها، يطاول بعضها منشآتٍ أو أشخاصاً، وأنشطةً في الداخل السوري، أشدّها ضربة القنصلية الإيرانية في دمشق، التي أذنَت بفتح جبهةٍ جديدةٍ في مواجهةٍ مباشرةٍ مع إيران.
تعدّ إسرائيل العُدّة لهجوم كبير على رفح، وذلك يتطلّب حشد قوّة عسكرية كبيرة من الضبّاط والمُجنّدين، وقوّات الاحتياط الذين استُدعوا فعلاً، فيما تتفاعل الجبهة ضدّ حزب الله، إذ نفّذت إسرائيل، قبل أيام، هجوماً قيل إنه طاول 40 نقطة، وهو هجوم واسع يحمل كثيراً من التحدّي، أعقبته هجوماتٌ متواترةٌ أودت إحداها بحياة القيادي في الجماعة الإسلامية في لبنان مصعب خلف، ما يعني أنّ لدى إسرائيل نيّات مبيّتة لمزيد من التصعيد، بل تسعى إلى تسخين الجبهات التي تبدو خامدة أو متوسّطة الشدّة، ويبدو أنّها لم تستمع إلى النصيحة الأميركية، ولا إلى نصائح حلفاء غربيين آخرين، بالتروّي تجاه إيران، بعد استيعاب ضربة الـ300 قذيفة، والردّ بالهجوم على أصفهان، فتزيد من زخم نيرانها على جبهة الشمال، حيث لبنان وسورية، وتتابع الاستعدادات للهجوم على رفح. هذا الاندفاع العسكري المتعدّد يأتي كلّه في وقت واحد.
لدى إسرائيل خبرةٌ سابقةٌ في الحرب على أكثر من جبهة، فهي خاضت حربين، واجهت خلالهما جيوشاً نظامية كبيرة، كان ذلك في العام 1967، عندما شنّت ما سمّته حرباً "وقائية" على الجبهتين السورية والمصرية، كما وقفت في العام 1973 أياماً عدّة للدفاع، قبل أن تتحوّل إلى الهجوم على الجبهتين. ما ميّز تلك الحروب أنّها كانت قصيرة المدّة، فلم تتعدَّ الحرب الأولى أياماً ستّة حتى سكنت المدافع، وبدأت الجيوش تُحصّن الخطوط التي وقفت عندها، فيما استمرّت الحرب الثانية 18 يوماً، بدأت في 6 أكتوبر/ تشرين الأول (1973) وتوقّفت فعلياً في الـ24 منه، وهما حربان استطاعت إسرائيل إدارتهما، وكان زمنهما القصير عاملاً في مصلحتها، ولكنّ حربها في غزّة تجاوزت ستّة أشهر من دون نصر حاسم.
خاضت إسرائيل حروباً سابقة في غزّة، تفاوتت بين التوغل أو الاكتفاء بالقصف من بعيد، وهي على دراية بجغرافيا غزّة، وكانت مسيطرة بشكل تام على القطاع منذ 1967 وحتى 2005. جنوب لبنان، هو الآخر، كان مرتعاً للقوات الإسرائيلية منذ العام 1978، مروراً باجتياح لبنان في عام 1982، والحروب مع حزب الله بعد العام 2000. هذا التمرّس يعطي إسرائيل نقاطاً إضافية، ولكنّ معركة غزّة الأخيرة تحرمها من ميزة الحرب السريعة، وهنا من الممكن أن تتدخّل الولايات المتحدة في الحسم لمصلحتها، ولكنّ تبقى لدى إسرائيل نقطة ترتكز عليها، وهي عدم رغبة الأطراف الأخرى في التصعيد، وقد ظهر ذلك واضحاً خلال ملابسات الفترة الماضية، الأمر الذي يمكن أن تستغله إسرائيل فتستفرد بتلك الجبهات، كلّ على حدة، وهي إن نفّذت هجومهاً على رفح، وأنهت الأمر، فسيشكّل ذلك حافزاً بالنسبة إليها، لفتح جبهة أخرى بشكل مباشر.