إسرائيل مشروعاً لإخفاء شعب
قامت إسرائيل على هدف مستحيل التحقيق، عندما قرّر قادة الحركة الصهيونية، ليس سلب الفلسطينيين وطنهم وحسب، بل ودفعهم إلى الاختفاء من التاريخ، إنّه نوع من الإبادة، ليس إبادة في الحاضر فحسب، بل وإبادة من الماضي أيضاً. لذلك، لم ينتهِ ما اعتبرته الحركة الصهيونية تحرّرها بقيام دولتها (محاولة من القادة الصهاينة تغطية اغتصاب الأرض الفلسطينية بشعاراتٍ سائدةٍ في ذلك الوقت)، كما انتهت معارك التحرّر الوطني في بقية العالم، لذلك بقيت معركة تأسيس إسرائيل مفتوحةً على صراعٍ لا ينتهي، طالما لم تنجز إسرائيل مهمتها التاريخية، إخفاء الفلسطينيين من العالم، وليس احتلال أرضهم فحسب.
واليوم، تبدو إسرائيل حائرة بشأن العمليات الفدائية التي ينفذها أشخاص مفردون، لا يتبعون أي تنظيم، ولا أعتقد أنّ الناطقين باسم إسرائيل من رئيس الوزراء، يئير لبيد، إلى آخر معلق إسرائيلي، مقتنعون بالصفة التي يطلقونها على هذا النوع من الأعمال، عمليات "إرهابية"، بحيث "يغتسلون من إرهابهم الذاتي باتهام الفلسطينيين بأنهم إرهابيون قدموا من الخارج"، على حد تعبير جيل دولوز. إنها الوقاحة في أحط تجلياتها، فمن حقّ إسرائيل أن تحتل الأرض الفلسطينية وتسرقها، وتهدم بيوت الفلسطينيين وتصادرها من أجل بناء مزيد من المستوطنات، وتقطع الأراضي الفلسطينية بعشرات الحواجز العسكرية التي مهمتها تعذيب الفلسطينيين وتحويل حياتهم إلى جحيم وقتلهم. وفي المقابل، على الفلسطينيين أن يصمتوا، وألا يبدوا أي مقاومة لإجراءات الاحتلال التي تدمر حياتهم وإلا ألصقت بهم تهمة "الإرهاب".
قامت إسرائيل مشروعاً إلغائياً، ويمكن القول إبادياً، للوجود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية، واقتلع المشروع الفلسطينيين من أرضهم، وأمل أن ينسى الأبناء في المنافي معاناة الآباء من الاقتلاع وتحويلهم لاجئين، يبيدون أنفسهم بأنفسهم. لكن الإلغاء المبتغى من الحركة الصهيونية لم تأتِ ثمارُه كما اشتهت، ولم تستطع بضربة واحدة هزيمة الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم وسلبهم وطنهم وإخفاءهم من الخريطة السياسية. هذا ما دفع المشروع نفسه أن يستمر بطبيعته الأولى، على رغم النقاش الطويل الذي دار في إسرائيل بشأن الحركة الصهيونية وانتهاك دورها بوصفها "السقالة" التي بنت دولة إسرائيل، والتي يجب التخلص منها بعد انتهاء البناء. لكن البناء لم ينتهِ فعلاً، لأن الطبيعة الإلغائية والاقتلاعية والإبادية لإسرائيل، بوصفه المكوّن الأساسي لسياسات إسرائيل اللاحقة لاستكمال مشروعٍ من المستحيل إكماله، فلم تتقادم الجريمة التي قامت إسرائيل على أساسها، لأنها بقيت تعتمد السياسات ذاتها تجاه الفلسطينيين، ما يجعلنا نقول إنّ الجريمة الصهيونية بحق الفلسطينيين جريمة مستمرّة بالمعنيين، السياسي والقانوني.
تتحمّل السياسات العربية المحلية التي تعاملت مع السكان اليهود المحليين بشكل سيئ مسؤولية رئيسية عن هجرة هؤلاء إلى إسرائيل
لم ينجح المشروع الصهيوني بالقدرات الذاتية للحركة الصهيونية، فقد رعت الدول الاستعمارية في حينها هذا المشروع لحماية مصالحها في المنطقة، وهذه وحدها أيضاً لم تكن قادرةً على إنجاح هذا البناء من دون تزامنه مع حدثين ساهما مساهمة كبيرة في جعل هذا المشروع قابلا للاستمرار. الأول، والذي وقع خلال الحرب العالمية الثانية، ويمكن اعتباره حدثاً تأسيسياً، وكان أوروبياً محضاً. فمع صعود النازية إلى سدّة الحكم في ألمانيا في الثلاثينات من القرن العشرين، تبيّن، وبشكل حاسم، أن إمكانية دمج اليهود في المجتمعات الغربية مجرّد وهم، وعادت "المسألة اليهودية" تطرح نفسها بقوة، لأنّ النازية من تجليات الفكر القومي الأوروبي الحديث، وإنْ بأبشع صوره، لكنّها نتاج المخاضات الحديثة، وبالتالي، هناك مشكلة أوروبية تحتاج إلى حل، وهي "المشكلة اليهودية". وبات واضحاً لليهود الأوروبيين أنّهم مهدّدون في أوروبا وغير مرغوب فيهم. وبحكم هذه العوامل الأوروبية البحتة، بدأت قطاعات واسعة من اليهود تميل إلى تأييد الـ"الدولة اليهودية" بوصفها ملجأً من الاضطهاد الأوروبي، ومنجاة من الإبادة النازية. وفي الوقت ذاته، باتت أوروبا تؤيد وتدفع باتجاه هذا الحلّ من أجل الخلاص من المشكلة المتوطّنة داخلها بإنشاء دولة لليهود خارج أوروبا، فكانت "الدولة اليهودية"، وبالتالي دولة إسرائيل، حلاً لمشكلة أوروبية. وبحكم الواقع الاستعماري، استطاع الغرب، وفي مقدمته بريطانيا، البلد المستعمِر لفلسطين، أن يجعل المنطقة العربية، وفلسطين بشكل خاص، تدفع ثمن حلّ هذه المشكلة.
الحدث التأسيسي الثاني، قام بعد إعلان دولة إسرائيل، وهو الهجرة اليهودية من البلدان العربية إلى إسرائيل. بالتأكيد، لعبت إسرائيل دوراً في تخويف اليهود من استمرار عيشهم في الدول العربية، وقامت بعدة عمليات إرهابية ضدهم، والإيحاء أنّ العرب هم من يقومون بها. رغم ذلك، تتحمّل السياسات العربية المحلية التي تعاملت مع السكان اليهود المحليين بشكل سيئ مسؤولية رئيسية عن هذه الهجرة التي شكلت الخزان البشري الذي دعم إسرائيل بعدد هائل من السكان الساخطين على بلدانهم السابقة وسياستها في فترة تأسيس إسرائيل، ما ضاعف عدد سكان إسرائيل خلال أعوام قليلة بعد إعلانها.
مهما بلغت إسرائيل في قوتها العسكرية، لن تستطيع إجبار الفلسطينيين على الاختفاء من الخريطة، فهذا هدفٌ مستحيل التحقيق
إذا كانت إسرائيل تجسيداً للمشروع الصهيوني، فهو ولد بجريمة بحق الفلسطينيين. ورغم أنه مشروع تستمر فيه البنية اليمينية الحاكمة في إسرائيل، في محاولة إكمال المهمة والسيطرة على كامل فلسطين التاريخية، بمزيد من قضم الأراضي الفلسطينية بمشاريع الاستيطان التي لا تنتهي، فإنّ الإحساس المستمر بالجريمة المرتكبة بحق الفلسطينيين يجعل الإسرائيليين يُصابون بالرعب من ولادة أيّ طفلٍ فلسطينيٍّ في الأراضي الفلسطينية، واعتباره خطراً أمنياً يهدّد التوازن الديمغرافي في دولة إسرائيل. هذا التأسيس المشوه والعدواني لدولة إسرائيل، جعل العدوانية والعنصرية جزءاً مكوناً من مجتمعها الذي يقتصر حصراً على اليهود، ولا يرى للآخرين الحق بالمساواة مع اليهود، حتى لو كانوا مقيمين في هذا البلد ووجودهم أسبق من دولة إسرائيل ذاتها، كما هو حال الفلسطينيين المقيمين في الأراضي المحتلة عام 1948.
تحاول إسرائيل قلب المعادلة الحقيقية للصراع، وتجعل من قمعها الوحشي للفلسطينيين ردّاً على المخاطر التي يشكّلونها على إسرائيل. ولكن تعظيم الخطر الفلسطيني لا يقتصر على تبرير قمعهم فحسب، بل هو، في واحدٍ من جوانبه، مبالغة القمع تُفسر بخوف الجلاد من الضحية، ويتضاعف الخوف من الضحية، عندما يدّعي الجلاد أنه ضحية تاريخية وحالية، محاولاً إخفاء جريمته المستمرّة التي لا يمكن إخفاؤها. لا تستطيع إسرائيل بقوتها العسكرية الهائلة تحقيق النصر الذي تريده، فمهما بلغت قوتها العسكرية لن تستطيع إجبار الفلسطينيين على الاختفاء من الخريطة، فهذا هدفٌ مستحيل التحقيق. لذلك الحل بسيط وواضح جداً، لكنّ إسرائيل لا تريد الذهاب إليه، وهو عكس السلوك الإسرائيلي تاريخياً، فهو يقوم على اعتراف الجلاد بالضحية وحقوقها وآلامها التي تسبّب بها. وبالتالي، الاعتراف بحقوقها الوطنية، هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يجعل إسرائيل تتصالح مع نفسها، قبل أن تتصالح مع الفلسطينيين والمنطقة.