إسلاموفوبيا عكسية
دخلت ظاهرة "الإسلاموفوبيا" مرحلة جديدة في أوروبا، بعدما أفسحت محكمة العدل الأوروبية المجال أمام الحكومات الأوروبية لفرض مزيد من القيود على مظهر المسلمين هناك وسلوكهم. إذ قضت محكمة العدل الأوروبية بأنّ "منع ارتداء الحجاب الإسلامي في أماكن العمل ليس إجراء تمييزياً". وبرّرت قرارها بأنّ عدم ارتداء الحجاب "يمكن أن يساعد في منع النزاعات الاجتماعية". ومن شأن هذا التكييف القانوني الجديد لحظر الحجاب، وغيره من مظاهر ذات صبغة دينية، أن يشجع مختلف المؤسسات الأوروبية، سواء حكومية أو خاصة، على المضي نحو إجبار المسلمين على عدم الالتزام ببعض التعاليم الدينية أو التمسّك ببعض الشعائر والطقوس التي يعتبرها المسلمون من التزاماتهم الدينية.
ليس ذلك التقنين لمنع الحجاب جديداً على التوجه الأوروبي العام، المناوئ للتعاليم الإسلامية. وإنّما هو تتويج لسلسلة متواصلة من الإجراءات والقوانين المحلية المشابهة التي اتخذتها بعض الدول الأوروبية، غير أنّ التمعّن قليلاً في ما تقوم به أوروبا من تربّص بالمسلمين، تحديداً بأشكال متنوعة، يكشف أن الدافع ليس الحفاظ على علمانية، ولا منع النزاعات الاجتماعية التي تفترض حكومات أوروبا أنها قد تنشب بسبب ارتداء النساء المسلمات الحجاب. فعند نشوء ظاهرة الإسلاموفوبيا على أيدي التيارات اليمينية المتطرّفة قبل أكثر من عقدين، كان المبرّر الوحيد وقتئذ هو التمسك بدمج المهاجرين المسلمين في المجتمعات الأوروبية، ونشر الثقافة والقيم الأوروبية لدى الجاليات المسلمة. غير أنّ تزايد أعداد المهاجرين وتوالد أجيال ثانية وثالثة داخل أوروبا أثبت قدرة وقابلية، بل ونجاح المسلمين في الاندماج والتعايش كجزء من المجتمع في كلّ الدول الأوروبية.
ولاحقاً، بدأت الحكومات الأوروبية توسع دائرة التقييد والمنع، حتى صارت تشمل مسائل لا صلة لها بالاندماج، أو حتى بالتعايش المجتمعي. وإنّما تصبّ مباشرة في صميم التعاليم الإسلامية ذات الطابع الشخصي، والمحصورة تماماً في النطاق الفردي، أي منبتّة الصلة بالعلاقات والتفاعل مع الإطار الاجتماعي المحيط بذلك الفرد. ومن أمثلة ذلك قرار السلطات المحلية في مدينة بيزييه (جنوب فرنسا) بقصر اللحوم المقدّمة في وجبات الطعام في المدارس العامة على لحم الخنزير، المحرّم تناوله في الشريعة الإسلامية. وكذلك منع ارتياد السيدات لبعض الشواطئ وحمّامات السباحة بلباس بحر محتشم. ومما يؤكد أنّ الأمر لا يتعلق بالانسجام المجتمعي أو بالثقافة السائدة، السماح بالذبح على الطريقة الإسلامية طوال أيام العام. ثم منع الذبح بالطريقة نفسها في عيد الأضحى!
بل إنّ التعبير عن المعتقدات الدينية، أو تجسيدها، في أشكال مرئية، لم يكن في الماضي ممنوعاً في أوروبا. استناداً إلى أنّ التمييز الديني المرفوض هو المتعلق بتفضيل أو اضطهاد أصحاب ديانة معينة من دون غيرهم في العمل، أو في أيّ سياق عام بسبب معتقدهم الديني. والمدهش أنّ هذا التمييز بالضبط هو ما تقوم به الحكومات الأوروبية حالياً، فصارت تستهدف المسلمين من دون غيرهم بإجراءاتٍ وقراراتٍ لا صلة لها بالتعايش والتفاعل الاجتماعي، وإنّما بالسلوك الفردي. وهو ما يعني مباشرة الاعتداء على حريات شخصية للمسلمين، لا تمسّ أيّ فئاتٍ أو مكونات اجتماعية أخرى، ولا تتعارض مع النسق الثقافي العام السائد.
بهذا، تنتقل أوروبا من حالة الخوف المرضي من الإسلام، إلى التربص بالمسلمين واستهداف كلّ ما له صلة بالإسلام من دون غيره. ووجه الخطورة الذي لا تدركه الحكومات الأوروبية، أنّ هذه السياسات ستدفع المسلمين إلى التقوقع والانعزال والتعاطي مع المجتمعات المحيطة بهم من منظور الأقلية المضطهدة. وفي مجتمعاتٍ تتزايد فيها النزعة اليمينية المتطرّفة بمنطلقات متعدّدة، منها القومي ومنها الديني ومنها العرقي، فإنّ النتيجة المباشرة، وإن تأخرت، ستكون انقساماً مجتمعياً حقيقياً قد يؤدّي إلى فوضى وتناحر أهلي، على العكس مما تظنّ به الحكومات الأوروبية أو تدّعي.