إعادة إنتاج جيل الهزيمة
كل شيء في حياتنا، نحن العرب والمسلمين، مثير، وملفت. عندما نفتح حديث الذكريات، مثلاً، نضطر لتداول مصطلحات من قبيل: نكبة 1948، نكسة 1967، سقوط سيناء، سقوط الجولان، سَلخ لواء الإسكندرون، اتفاقية سايكس بيكو، وعد بلفور، تقسيم فلسطين، شهداء 6 أيار، مجزرة صبرا وشاتيلا، عناقيد الغضب، الحرب الأهلية اللبنانية، مجزرة الكيماوي (حلبجة)، مجزرة الكيماوي (غوطة دمشق)، مذبحة قلب لوزة.. والحبل على الجرار.
عندما كان بشير العظمة (1911- 1992)، وزير الصحة في دولة الوحدة مع مصر، ورئيس الحكومة أيام الانفصال، في تخوم الثمانين من عمره، ألحّ عليه أصدقاؤه لكي يكتب مذكّراته. تهرّب في البداية، ثم نزل عند رغبتهم، فكان ذلك الكتابُ المهم، الخطير، الذي أطلق عليه اسم "جيل الهزيمة". أثار الكتاب حين صدوره، ولا يزال يثير، السخطَ على مؤلفه بسبب صراحته، وصدقه، وإصراره على قول ما يعتقده من دون تزييف، تخيّلوا أناساً يتغنّون بأمجادهم، وشجاعتهم، وفروسيّتهم، وسيرهم في طرق المعالي، يخرج لهم مثقفٌ من بينهم ليقول: نحن مهزومون.
على الرغم من المعلومات التاريخية والسياسية ذات الدلالة في الكتاب، أرى الجوهري فيه ذلك الوصف المدهش لحالة التعليم التي كانت في كتاتيب تلك الأيام، وأظنّها تكفي للدلالة على هزيمة أجيال متعاقبة كثيرة، وتبدأ من قناعة راسخة عند الآباء والمعلمين بأن الطفل وحشٌ صغير، على المجتمع كله أن يتعاضد من أجل قهره، وترويضه، فكان الأبُ يسحب ابنَه الصغير من يده إلى شيخ الكتاب، ويقول له تلك العبارة التقليدية: اللحم لكم، يا شيخ، والعظم لنا؛ ما يعني أن من حقك أن تستمر بضربه ما لم تكسر أياً من عظام جسمه.. وكانت لضرب الأولاد، يومئذ، شجون وفنون، منها (المُشَاوَرَة)، وهذه بسيطة، تكون بأن يُمْسَكَ الولدُ من وسطه، وتبدأ العصيّ بالنزول على مؤخرته مثل زخّ المطر، والفلقة، وبها يُطرح الطفل على ظهره، وترفع ساقاه إلى الأعلى، وتُربطان على نحو متواز، حتى يتمكن الجلاد، وهو غالباً حارس المدرسة، من ضرب قدميه ضرباً يؤدّي، في أغلب الأحيان، إلى فقدان الوعي، ونزيز الدم من الساقين، فيعالج، وقتئذ، بسفح الماء على رأسه وقدميه، ليصبح جاهزاً للضرب مجدداً، ويُرسل، بعد هذه الضغينة التي تبلغ حدود السادية، ليسجن بضع ساعات في المرحاض. وفي البيت يمارس عليه الأب، أو الأخ الأكبر، عقوبات جسدية متنوعة، وأخرى معنوية أخطرُها أن أباه لا يحضنه، ولا يكلمه، ولا يفرد وجهه بحضوره، دواليك حتى يتمكن هذا المجتمع الراكد من إنتاج جيل مستنسخ بعناية عن جيل الأجداد والآباء.
أطلق الإعلام السوري على هزيمة 5 حزيران 1967 اسم النكسة، مفترضاً أن شعبنا أصيل، يسير دوماً إلى الأمام والأعلى، ولكنه، هذه المرّة (فقط)، انتكس. والملفت للنظر أن هناك اتفاقاً شبه تام بين النظام السياسي والنخب الثقافية المصنفة في خانة المعارضة على أن تجريب الأسلوب نفسه، بالعقلية ذاتها، بالأدوات التي أدّت إلى الهزيمة ذاتها، يمكن أن تؤدّي، في مرّة مقبلة، إلى انتصار مدوٍّ، والدليل على ذلك أنه لم يبرز واحد من المثقفين السوريين الذين آلمتهم هزيمة 1967، يخالف الآخرين بالرأي، بل اجتمعوا، كلهم، على أن "المعارك مستمرّة يا جماهيرنا يا حرّة"، وكل شيء للوطن والقضية، ولا صوت يعلو على صوت المعركة، وعَبّي لي الجعبة خرطوش، ووين الملايين؟ مع استعداد دائم لتخوين مَن تسوّل له نفسه أن يدعو لتحكيم لغة العقل، وإيجاد وسائل أخرى لاسترداد الحقوق، غير وسيلة المواجهة العسكرية (التي نخسرها دائماً)، وبدلاً من تحرير الأراضي المحتلة، نخسر أراضي جديدة، وننطلق، في اليوم التالي، رافعين الشعارات ذاتها، إضافة إلى مقطع من خطاب لعبد الناصر (ما أُخذ بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة)، ولا يموت حقٌّ وراءه مُطالب.