إعادة التفكير في الأمازيغية
قيمة ما بين أيدينا من إرث حضاري تكمن دائما في العودة المتكرّرة إلى مراجعة وعينا بهذا الإرث، وكيف تمثلناه واستعدناه، هو حكم أبدي بـ"الاستدعاء"، الذي يصفه المؤرّخ محمد القبلي بأنه "أول الطريق لمن ابتغى أن يدافع الإبهام أو أن ينصّب بعض النقط على الحروف". ولهذا، التاريخ مجال لإعادة التفكير بشكل دائم، ففي كل مرّة نجد أنفسنا مدعوين إلى النظر من زاوية لم نكن نعلمها، ولا نلقي لها بالا.
لا تزال موضوعة الأمازيغية في بلاد المغرب أرضا خصبة للبحث، ومختبرا كبيرا للتفكير وإعادة التفكير. وللأسف الشديد، هي لا تلقى ما تستحقه من عناية بحثية، وقد واجهت دائما سوءا في الفهم والتقدير من الباحثين والمؤسّسات الرسمية، فإما أن يكتب عنها من ليسوا على درايةٍ بجغرافية البلاد كما علق المؤرّخ علي صدقي أزايكو، أو أن تمتزج بالنقاش المرتبط بالفتوحات الإسلامية، فتضيع تفاصيل الفهم وسط الجدل والأسئلة الأيديولوجية، أو تصير بوابة لاكتشاف الغريب والمختلف عند المستشرقين والأنثروبولوجيين الغربيين، أو من مزجوا كل ذلك بالحاجة الاستعمارية لهذا النوع من المعارف. ثم الاتجاه البحثي الذي غلبت عليه المسحة الأيديولوجية، التي لم تكن ترى في الأمازيغية غير التهميش والانزواء والظلم، فغلب عليها هذا المزاج فصوّر الأمازيغية من هذا المدخل، وغير ذلك من وجهات النظر الأخرى.
ومن دون أن ننفي جهود كثيرين من المستمزغين الغربيين (قياسا على مصطلح المستشرقين)، في نقل كثير من إرث هذه الثقافة في صورها المتأخّرة في بلاد المغرب أو غيرها من بلدان شمال أفريقيا لحظة الاستعمار، وكذلك جهود بعض الفاعلين الثقافيين الأمازيغ في الساحة البحثية المغربية التي ساعدت في لحظتها على إعادة التفكير في الأمازيغية، كما هو الحال مع مؤلفات محمد شفيق أو علي صدقي، ومؤلفات أخرى للأسف لم يُستأنف التفكير فيها من بوابة إعادة التفكير في الأمازيغية، كما هو الحال مع مؤلفات الشيخ الإصلاحي محمد المختار السوسي، أو الحسن اليوسي نفسه، من مداخل مختلفة طبعا هي من صميم إعادة التفكير المقترحة.
يمكن لإعادة التفكير في الأمازيغية أن تكون بوابة للتفكير في طبيعة التنمية الممكنة في المغرب
سياق استحضار هذا النقاش مهرجان "تويزا" أخيرا (6 - 9 يوليو/ تموز 2023)، والذي ينظم في طنجة، ويشرف عليه "مناضلون أمازيغ"، كما جاء في الموقع الخاص بالمهرجان، والذي تضمّن في جلسة فكرية عنوانها "إضاءات حول تاريخ الأمازيغ" مداخلة لمحمد جبرون، الباحث في التاريخ، وفصّل فيها دعوته التي حاول مرّات عدة توجيه الأنظار إليها، وهي "إعادة التفكير في الأمازيغية".
لا يمكن للمتابع إلا أن يثمّن دعوة جبرون في استشكالاته تلك، سواء من المداخل التي أشار إليها، المتعلقة بالاسم "أمازيغ"، وإنْ كان نقاشا طرحه سابقا بعض رواد جمعية التبادل الثقافي في المغرب، إلى جانب مسألة التمازج العرقي التي تحدّث عنها، أو حروف تيفيناغ والحروف الأخرى التي لم تفك شيفرتها بعد، حسب تعبيره. والجميل في نقاش جبرون التقاط مسألة في غاية الأهمية، تكمن في افتراضه أن التعدّدية والازدواج يمكنهما أن يكونا مدخلا إلى فهم تاريخ المغرب والمغاربة، بل وفهم شمال أفريقيا، في بعديْها الأفريقي والمتوسطي، وفي العلاقة في روافد أخرى مشرقية أيضا، وكلها منافذ بحثية مهمة.
يمكن كذلك لإعادة التفكير في الأمازيغية أن تكون بوابة للتفكير في طبيعة التنمية الممكنة في المغرب، لأن تعميق النظر في هذه المسائل سيمنح المغاربة استيعابا كبيرا ومختلفا لتاريخهم وأنماط عيشهم وعلاقاتهم بالعالم، وبالمجال الذي يعيشون فيه، وأنماط تكيّفهم مع كل التغيرات التي طرأت على مجتمعاتهم ودولهم. كذلك، ستعبر الأجوبة والفرضيات والتأويلات الممكنة كلها إلى أنماط الفعل المدني الحديث، لاستثمارها رمزيا في كل مجالات عيشنا في المغرب، سواء على مستوى العمران أو اللباس أو العلوم أو البيئة والماء، وعلى مستوى القانون وأرضيات السلم والاستقرار التاريخية، وكذلك التمازج مع العربية والإسلام، والإبداع من داخلهما كجزء من الحضارة الإسلامية الممتد.
الأمل معقودٌ دوما كما يعلمنا التاريخ على المؤسّسات المستقلة، وكذلك جهود الأفراد
ولعل حضور الأمازيغ داخل الحضارة الإسلامية العالمية مسألة هي الأخرى لم تُستأنف إعادة التفكير فيها، وهذا من مساوئ البحث في العالم العربي والإسلامي، الذي لا يزال يهمل هذه المشارب الفكرية والحضارية ودورها التاريخي، كما هو حاصلٌ مع مساهمات شعوب أخرى كالتتر أو مساهمة مسلمي الهند ومسلمي أوروبا وغيرهم من شعوب العالم الإسلامي.
أخيرا، ما هي الجهات التي يمكنها تبنّي هذا السؤال في المغرب؟ في الإجابة عن هذا السؤال تلوح في الأفق، وقبل كل المقترحات الممكنة، مؤسّسة رسمية، هي "المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية"، التي نعتب عليها بشكل كبير لتقصيرها في خدمة هذا السؤال، وكل ما يتعلق بالثقافة الأمازيغية، تقصير تجسّد في إصداراتها البحثية القليلة، فجناحها في المعرض الدولي للكتاب بلغ في فقره ألا يعثُر من زاره السنة الفارطة على جديدٍ يذكر، فما الذي تنشغل به هذه المؤسّسة فعلا داخل أروقتها البحثية؟ ولا يعني هذا الكلام التعويل المطلق على المؤسّسات الرسمية، وإنما الأمل معقودٌ دوما كما يعلمنا التاريخ على المؤسّسات المستقلة، وكذلك جهود الأفراد للدفع نحو تثمين هذا السؤال والتفكير فيه مجدّدا، وإيجاد ما سمّاه جبرون جيلا بحثيا جديدا.